قلما يخطر لنا ببال عندما نتحدث عن المخدرات كالأفيون والكوكايين والحشيش وغيرها أن التخدير سنة تتمشى عليها الطبيعة في تصريف شؤون الكائنات الحية، وأنها تمارسه بشتى الأساليب. فمن المعروف عن بعض الحشرات والحيوانات أنها تخدر فريستها بلسعة أو بنظرة أو بصوت أو بحركة. وليس خفيا أن الإنسان يملك القدرة على تخدير الإنسان بقوة الفكر والنظر والحركة والكلمة.

من أبرع أساليب التخدير وأدهاها عند الطبيعة النوم. فما أن يرين النعاس على الأجفان حتى يتعطل البصر، ومع البصر السمع والشم واللمس والذوق، وبالتالي الوعي والشعور بالذات والكائنات المحسوسة من حولنا، وإذ بنا ننتقل في طرفة عين من حال إلى حال ومن عالم إلى عالم. وهل أدعى إلى الدهشة والتأمل من جماعة يتسامرون وبينهم المريض والصحيح والفقير والغني، والسيد والعبد، فإذا سطا عليهم النوم فكهم من رباط يشد بعضهم بعضا، فباتوا، وهم أحياء، شبيهين بأشلاء تتنفس ولا من صلة تربط أذن الواحد بلسان الآخر، أو عينه بعينه، أو فكرة بفكرة! وقد تنقلب أوضاعهم في المنام رأسا على عقب، فيرى المريض نفسه صحيحا والصحيح مريضا، ويصبح السيد عبدا والعبد سيدا، ويغنى الفقير ويفتقر الغني. كل ذلك وهم في الظاهر عين الجماعة الذين كانوا منذ لحظات قليلات يتجاذبون أطراف الحديث شاعرين أدق الشعور بالفوارق الجسدية والفكرية والاجتماعية فيما بينهم. لقد عبث النوم بأوجاعهم وأوضاعهم وبمشاعرهم وأفكارهم. فهم هم. ولكنهم غير ما هم. لعمري إنه السحر بعينه. والسحر الذي لا يدانيه أي سحر بشري.

إن يكن النوم من أبرع المخدرات وأدهاها في صيدلية الطبيعة، فأبرعها وأدهاها على الإطلاق هو الموت. ووجه الشبه بين النوم والموت قريب إلى حد أن يحملنا على الجزم بأنهما عنصر واحد. وما الفرق إلا في مدى التخدير من حيث طوله وقصره. فنحن إذ نتخدر بالنوم نعود فنصحو منه بعد ساعات على نهار جديد. وما أدرانا أننا إذ نتخدر بالموت لا نعود فنصحو منه بعد سنين على حياة جديدة؟ ولعل من قال:

(النوم موت قصير والموت نوم طويل) كان من الحقيقة في الصميم. إما أن الموت يلازمه تفكك وانحلال في الخلايا التي تتكون منها الأجساد فليس في ذلك ما ينفي أن الحياة التي سكنت تلك الخلايا ردحا من الزمن لا تستطيع الرجوع إلى خلايا مماثلة ردحا آخر من الزمن.

ليس من ينكر أن الطبيعة رفيقة وحكيمة إلى أبعد درجات الرفق والحكمة عندما تفرض علينا النوم فرضا. فهي إذ تلفنا بغيبوبة النوم لا تعطل فينا الحياة بل تعطل أعصابنا وأفكارنا ومشاعرنا عن المضي فيما كان يجهدها ويرهقها في حالة اليقظة، كي نستفيق وقد استردت توازنها وقواها ومضاءها لاستئناف أعمالها. فكيف نقول في تلك الطبيعة عينها إنها فقدت رشدها وحكمتها وانقلب رفقها شراسة وحلمها جنونا، إذ هي لفتنا بغيبوبة الموت؟ ثم كيف نقول إنها عطلت الحياة فينا؟ وهل للحياة أن تعطل الحياة؟

لعمري إنها الحكمة التي ما بعدها حكمة أن تكون الحياة وقفة فوثبة -سكرة فصحوة – هجعة فيقظة – ولادة فموتاً – نموا فانحلالا. وهل من يستطيع أن يصور لنفسه عالما كله حركة بغير سكون، ويقظة بغير هجوع، وولادة بغير موت، ونمو بغير انحلال؟ إذاً لكان في مستطاع نبتة واحدة من الفطر أو اليقطين، وفي مستطاع برغوث أو برغشة، أن تملأ الأرض والسماء في خلال قرون معدودات، ولما كان لباقي الكائنات من مجال للوجود.

أم هنالك من يستطيع أن يتخيل فكرا يدأب بغير انقطاع وعلى مدى العمر-إن لم نقل مدى الزمان-وراء غاية واحدة؟ أم شهوة مشبوبة تتلظى منذ الولادة حتى الموت فلا يخمد أوارها لحظة من العمر؟

لذلك كان التخدير حكمة تفوق حد التصور. فالاستمرار في عمل واحد، أو في حركة واحدة، أو فكر واحد، أو رغبة واحدة استمرارا لا نهاية له ولا انقطاع فيه أمر يفوق طاقة الإنسان والحيوان والنبات. ومن ثم لا يؤدي بالكائنات إلى معرفة الحياة من كل وجوهها معرفة كاملة صافية. ونحن لولا أملنا بمثل تلك المعرفة لما كان أن نسوغ لوجودنا.

كأني بالحياة تجرعنا المعرفة جرعة جرعة، مثلما تعلمنا المشي خطوة خطوة، والنطق حرفا حرفا. ثم تجعل لنا بين الجرعة والجرعة فترة استراحة أو تخدير من «هضم» ما جرعناه، على حد ما تفعل بنا بعد كل وجبة من الطعام وبعد كل فكر وشهوة وعمل. فنحن إذ نأكل ونشرب لا نقضي على شهوة الأكل والشرب فينا، ولكننا نخدرها إلى حين، ثم هي لا تلبث أن تستفيق. كذلك هي حالنا مع سائر شهواتنا مهما يكن نوعها. فما اللذات نجنيها ما بين حسية ومعنوية غير مخدرات للشهوات المصوبة إليها. وعلى عكسها الآلام بأنواعها. فهي منبهات لا مخدرات. فنحن إذ نستسلم للأحلام الزاهيات والآمال العذاب إنما نخدر رغباتنا في الوصول توا إلى ما نحلم به ونؤمله. ونحن إذ تنهشنا الخيبة وتمشي في دمائنا مرارة الفشل إنما نتنبه إلى رغبة من رغباتنا لم تتحقق. فعلينا أن نوقظ قوانا من غفلتها وأن نعيد تنظيمها وتدريبها لنسلك إلى غايتنا طريقا غير الذي سلكناه.

ليس بمجد في حربنا مع الألم أن نجرع الكثير من مخدرات اللذة. فالمخدرات المعنوية، كالمخدرات الحسية، تتحول سما زعافا إذا هي استعملت لغير غاياتها وبأكثر من مقاديرها. أما الوسيلة الوحيدة للتغلب على الألم فهي انتزاع الشهوة بجذورها من القلب كيما ينعتق القلب من ضرورة تخديرها وتنبيهها والامتثال لسلطانها. وتلك هي رسالة الدين. وهي رسالة يتعذر فهمها والعمل إلا على القلوب التي توحدت شهواتها في شهوة واحدة: شهوة الحرية المطلقة التي لا تكون بغير المعرفة المطلقة. ولا تتوحد الشهوات إلا في القلوب التي خبرت المخدرات والمنبهات خبرة طويلة واسعة فأدركت أن الحياة إذ تخدر القاصرين من أبنائها رأفة بقصورهم لا تخدر ذاتها. وإذ تنبههم لا تنبه ذاتها. فهي فوق التخدير والتنبيه، وفوق الخير والشر، وفوق كل أصناف المتناقضات.