تصادف هذه الأيام المباركة من شهر رمضان المعظم ذكرى عزيزة على قلب كل مواطن سعودي، ومناسبة في غاية الأهمية أعلنت بدء صفحة جديدة في تاريخ المملكة العربية السعودية، عندما اجتمع قادة هذه البلاد المباركة وعلماؤها ورموزها ونخبتها وعامة مواطنيها ليبايعوا الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد، فقدموا له بيعة الولاء والإخلاص، وعاهدوا الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره. كل ذلك تم في أجواء مفعمة بالمودة الحقيقية وغير المصطنعة، وعامرة بمشاعر حميمة سادت في المكان، وتوافق كبير بين الجميع.

مما ساعد في إكساب تلك اللحظات التاريخية التي لن تفارق ذاكرة السعوديين رمزية خاصة روحانية الزمان وقدسية المكان، فتلك الخطوة الفارقة حدثت في قصر الصفا بجوار بيت الله العتيق، في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان الكريم، تلك الليلة التي تخشع فيها قلوب المسلمين في كافة أنحاء العالم لذكر الله، وتبتهل ألسنتهم بالدعاء له سبحانه وتعالى، وتهفو فيها أفئدتهم طلبا لعونه ورحمته وغفرانه.

في تلك الساعة المباركة توافق السعوديون بمختلف مشاربهم ومناطقهم على الأمير الشاب ليكون عضيدا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وليمزج دماء الشباب وطموحهم الوثاب وحماسهم الدفاق بحكمة الشيوخ ونظرتهم المعتقة بخبرات السنين، ومن هنا جاءت وصفة القيادة السعودية الفريدة.

لم تكن تلك اللحظات مجرد مبايعة ولي عهد جديد، بل إن عجلة التاريخ توقفت لتعلن بوضوح أن المملكة انحازت إلى جيل الشباب واختارت المستقبل، وقررت تجديد مؤسسة صناعة القرار بدماء شابة، تمتلك رؤية طموحة، وتعمل على الوصول إلى مستقبل زاهر، فكان ذلك إيذانا ببدء مسيرة جديدة وفتح صفحة مشرقة في التاريخ السعودي، كان عنوانها رؤية المملكة 2030 التي سبق إعلانها بعامين، والتي كانت خطوة رائدة فرضتها الظروف الاقتصادية التي يعيشها العالم، وما يشهده من متغيرات، فجاءت ترجمة فعلية لما ينبغي فعله لمواكبة المستجدات.

لذلك بهرت مفردات الرؤية ومعطياتها العالم أجمع بما احتوت عليه من حقائق واقعية وخيال قابل للتطبيق، لاسيما أنها لم تكن مجرد معالجات اقتصادية أو خطة للنهضة والتنمية، بل هدفت لإحداث تغييرات جوهرية مست بنية المجتمع السعودي وأنظمته، ووقفة صادقة مع النفس لمراجعة المسيرة واستخلاص العبر ومعرفة أوجه القصور - إن وجدت - لمعالجتها، وتصحيح السلبيات وتجاوزها، وليس في ذلك عيب أو منقصة، فالكيانات التي لا تراجع مسيرتها ولا تخضعها للتقييم والتقويم هي كيانات متكلسة مصيرها إلى الفناء والاندثار.

كانت لحظات البيعة تاريخية، التقت فيها القلوب، واتحدت الأفئدة واتفقت العقول على وجوبها، فكان أن تمت في سلاسة متناهية، وإجماع فريد، لتؤكد المملكة ريادتها في تجارب الحكم الفريدة، وتقطع خطوة مقدرة في رحلة نقل القيادة إلى الأجيال المقبلة، دون صراعات أو تجاذبات أو شقاق. بعد أن أثبت الأمير المحبوب في وقت وجيز أنه يملك رؤية طموحة، لتحديث الاقتصاد، وتطوير المجتمع، وتعزيز الوضع السياسي.

ونظرة سريعة لما تحقق من إنجازات وما شهدته بلادنا خلال السنوات الأربع الماضية من نهضة شاملة وازدهار على كافة المرافق تؤكد صواب تلك الرؤية وصحة القرار، فالمملكة انطلقت بقوة متناهية في كل المجالات، وشهد اقتصادها قفزات نوعية، لاستحداث مصادر دخل جديدة، واهتمت بتحديث اقتصادها للحاق باقتصاد المعرفة، كما انضمت إلى مجموعة دول العشرين التي تضم أكبر 20 دولة في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي ومتانة الاقتصاد، بل إن المملكة تبوأت مكانة متميزة داخل دول المجموعة ولم تكتف بمجرد العضوية، وخير دليل على ذلك رئاستها للدورة الماضية التي شهدت إنجازات غير مسبوقة.

لم تقف النهضة على مجرد الجانب الاقتصادي، ففي المجال الاجتماعي شهدت بلادنا تغيرات إيجابية كبيرة، منها تمكين المرأة وإتاحة السبل أمامها للإسهام في الناتج القومي، ودعم الشباب وتقليل البطالة في أوساطهم، وتحديث المجتمع، وتطوير المنظومة القضائية باستحداث وتعديل كثير من القوانين، والاهتمام بالجانب البيئي. كما اهتم ولي العهد بتحقيق العدالة بين جميع المواطنين عندما شنّ حربا لا هوادة فيها استهدفت مكامن الفساد المالي والإداري، ووجه ضربات قاضية لمن ارتضوا لأنفسهم المال الحرام والاستئثار بأموال الدولة والاستيلاء عليه.

كذلك شهدت المملكة في المجال السياسي انفتاحا على العالم أجمع، وحازت على مكانة متميزة، وصارت تعرف بمطبخ القرار العربي ومحطة مهمة لا يمكن تجاوزها في جميع قضايا المنطقة، وأصبحت الرياض قبلة لكثير من زعماء العالم وقادة دوله، يزورونها للتباحث والتنسيق في القضايا الكبرى التي تهمهم.

وأعيد هنا ما سبق أن ذكرته عن ضرورة قيام كل فرد منا بما عليه من واجبات لدعم تلك الجهود والإسهام فيها باعتبارها واجبا دينيا ووطنيا وأخلاقيا، فالدول لا تبنى إلا بسواعد أبنائها، ولا أثر حقيقي لأي جهود حكومية ما لم يرافقها دعم شعبي قوي وواضح، ونجاح المساعي التي تبذلها القيادة لرفعة هذا الشعب يتطلب منا أن نتحول من مجرد متفرجين إلى مشاركين حقيقيين، وليكن كل منا ساعدا للبناء ومعولا للإنشاء وعينا للرقابة.

مفاهيم الولاء والطاعة ومشاعر الانتماء والوطنية يجب أن نترجمها إلى أفعال على أرض الواقع وممارسات إيجابية في حياتنا اليومية، فهذه البلاد التي ما بخلت علينا تستحق أن نذود عنها ونرد كيد الكائدين، لاسيما أنها تتعرض بين الحين والآخر لسهام الحاقدين الذين يسوؤهم ما تشهدها من رفعة ونهضة مستمرة، لكنها ستواصل بإذن الله مسيرتها مرفوعة الرأس، لا تلقي بالا لأصوات المنهزمين، يحرسها ربها الذي اختارها حاضنة لبيتيه المقدسين، وتحميها سواعد أبنائها الذين ما توانوا يوما عن تقديم أرواحهم فداء لها.