من الجولة الأولى إلى الفرصة الأخيرة، مرورا بحسن النوايا أو بالعراقيل المتواترة، ومن القاهرة إلى كينشاسا، مرورا بالخرطوم وأديس أبابا وواشنطن، ومن ذكريات طاولات التفاوض ووعود عدم الإضرار بالآخرين إلى محاولة لجم ذلك النهر العظيم بفرض غُبن الأمر الواقع، شاء من شاء وأبى من أبى.

ومن همسات بعض السياسيين إلى تحذيرات بعض المحللين، مرورا ببعض العواصم، وعبورا لبعض أروقة المنظمات الدولية، ومن حامل لواء جائزة نوبل للسلام إلى عابث بالتشريعات الدولية المنظّمة للمياه العابرة للحدود، مرورا بسحق المتمردين وردم أهواء الانفصاليين.

ومن عشرات اللقاءات والمناقشات والاقتراحات إلى مئات الإخفاقات والتعنتات، مرورا بغاية كسب الوقت بطريقة إضاعة الوقت، ومن أولى لبنات ذلك السد الناشز إلى ساعة ملئه الثاني.

أما آن الأوان لاستباق الكارثة وتجنب المصيبة!، ربما يكون المجتمع الدولي قد ألف ذلك الماراثون التفاوضي ذي العشر سنين، ولم يفق حتى تلك اللحظة إلى أن ساعة الحقيقة وسكرة اللاعودة قد حانت بقضها وقضيضها، وأن طبول الحرب قد أخذ يتصاعد هديرها وبلا هوادة.

وبعيدا عن دهاليز المؤامرة، وغرقا في أحضان البراءة، إن ارتضينا، قد يُفسر هدوء وسكينة القوى الإقليمية والدولية أمام ذلك السد الاثيوبي بانشغالها بمعضلاتها الداخلية والإستراتيجية، فتلك الجائحة تدك أعتى الحصون وتوقع أكثر الضرر، والصراعات السياسية والاقتصادية والأمنية تمتد على رقعة ذلك العالم من أقصاه إلى أقصاه، لكن هل يُدرك ذلك الواقع المأزوم جيدا تبعات وصول صانع القرار المصيري المصري والسوداني إلى زاوية الحائط المسدود؟!، فتصبح حتمية تدمير، بل سحق ذلك السد مطلبا شعبيا، يرتجي إزالة الغمة، ويشتهي أن تحين ساعة الصفر قريبا، فتندلع حرب مياه جديدة بامتياز، أطرافها مئات الملايين من البشر، وساحاتها تترامى على ملايين الكيلو مترات المربعة، ونتائجها قد لا تراها أعين منجمي السياسة والحرب.

أما قراءة وسبر ذلك المشهد الخطير، ومع الاحترام الخجول للجهد الخجول والمتردد للاتحاد الإفريقي، والزيارات، ربما الشكلية لبعض الوفود الأمريكية متوسطة المستوى، ودعوات التهدئة وعبارات التعقل الصادرة من هنا وهناك، فقد يجعلنا ذلك ندرك أخيرا وكثيرا أن بعض المتنفذين في شطرنج السياسة والحسابات الدولية ربما يدفعون صوب إشعال ذلك الفتيل الكبير، وربما يريدون لـ«فوضاهم الخلاقة» أن تتجذر من جديد، أو ربما يسعون لخلخلة وإضعاف مصر الصاعدة والمستقرة، والاكتفاء بالتفرج على تلك البلاد وهي تدخل آتون الصراع المسلح، وبعدئذ لكل حادث حديث.

لا بد أن الأسابيع القادمة ستكون حُبلى ببعض الدخان الأبيض لغاية تمزيق تلك الغيوم السوداء، لكن ذلك الدخان الموعود لا يُغني عن وقفة الأشقاء ومواقف الأصدقاء قرب حزمة الحقوق التاريخية للقاهرة والخرطوم عند الحديث عن النيل الذي يعني الحياة.. ويعني الموت!.