من تلك الباخرة الكلاسيكية التي حملت المازني ورفاقه مُتَّجِهة ناحية الحجاز استأنف المازني كتابة قصته بعنوان رحلة إلى الحجاز، ذلك الحجاز الذي أصبح يترنم إبراهيم المازني بينه وبين نفسه بالسرور والبهجة عندما كان على الطوفان كونه ذاهب لأرض عربية تخلو من الغرب الذين يغزون مصر، ولقد سئم من رؤيتهم في كل الشوارع المصرية، مصطحبًا جمود تلك المخاوف كون أن الباخرة تحمل أكثر من قبطان وقائد، فسارت ببطء وتوتر حتى أقبلت إلى ميناء مليء بالراكضين من الأطفال يلهثون طالبين القروش التي تُلقى إليهم من أعلى الباخرة إلى قاع البحر ثم يغوصون خلفها قبل أن تصل إلى سطح القاع.. إنه قاع شاطئ ينبع يا سادة وأطفالها في ذلك العقد الزمن.

نزل المازني ورفاقه لملاقاة الأمير النجدي، أمير ينبع وكان وقت دخولهم أثناء إقامة الصلاة فلقد كان السوق جافًا من الناس تذروه الرياح، وكانت البضائع مكشوفة على مصراعيها بلا حسيب ورقيب، ومن هنا مد يديه زكي باشا كي يقتطف أو بالأصح يسرق من تلك البضائع ويتذوق، وحينها شاهد المازني بأن هنالك أطفال فقراء تكسوهم الأقمشة الممزقة والبالية التي لا تكاد تستر عوراتهم فظل يتساءل! لماذا لا يسرق هؤلاء الفقراء الجياع من هذه البضائع التي بلا حسيب ولا رقيب حين يكون الناس في المسجد لأداء الصلاة؟

وعندما سأل أهل المنطقة أجابوه بأن لا أحد يجرؤ على السرقة، وبالطبع ذلك لأن الأحكام في السرقة كانت مشددة على لسان المازني من ابن سعود، بل وصل ذلك الحال أن الناس إذ لاقت ساقط بالأرض تتركه حتى لا تُقص أيديها ومن هذا أن اَلْعَصَاة التي ألقى بها المازني أثناء عبوره من جده إلى مكة عادت له من قبل السائق الذي يعيد شيء سقط، وكانت مجرد عصاة عشوائية منتزعة من شجرة بتصرف أحدث استغراب كبير للحاضرين ثم أخبرهم السائق بأن هنالك تشددًا كبيرًا مع السارق، ومن إحدى تلك القصص أن رجلًا وجد «خيشة» مليئة بالقهوة، وعندما ذهب ليسلمها للحكومة قال لهم: «هذه قهوة وجدتها في الأرض، وما كان من الحكومة سِوى معاقبته وذلك نظير اِستطلاعه إلى ما بداخل تلك الخشية أو تحسسها فلذلك علم أن ما بداخلها قهوة».

كانت الحكومة والأمراء متدينون والناس كذلك بل ومن العجائب التي بدت على محياه، أن أمير ينبع يمشي بين الناس، وكان الحارس الخادم يهمس في اُذن الأمير ويضحكون فلقد كان هناك ترابط كبير جراء هذا التواضع والتعامل من قبل الأمراء مع الشعب وهنا يقول المازني: ولا حاجز هناك بين الأمير وأحقر الأهالي، وسلطان الحكومة ليس مستمدًّا من الخوف الذي تبعثه القوة، بل من الاحترام والحب والتعاون.. وقد عدت من ينبع إلى الباخرة وأنا أحس أني بدأت أفهم، وقد زدت فهمًا لمَّا زرت جدة ومكة، ذلك أن الرعية راضية وأن الحاكم والمحكوم متعاونان.

وأما عن أهل الحجاز، فلقد شعر المازني ورفاقه بأنهم في بلاد فعلا مستقلة فلا أجنبي هناك ولا نفوذ ولا سلطان إلا الأبناء وكل موظف حجازي، حتى اللاسلكي عماله ومديره حجازيون، وقد أبى زكي باشا إلا أن يرى هؤلاء العمال وهم يبعثون بتحياتهم إلى الأمير فيصل في مكة، كأنما لم يكن يصدق أن لابسي العباءة والعقال يستطيعون أن يُحسِنوا ما يحسنه الأوروبي من الأعمال الآلية، وأما عن سائق السيارة الذي كان في عمر الثانية عشر، كان يراوغ بقيادته في الوحل والطين الذي يعلو إلى منتصف عجلات السيارة كون مدينة جدة اِنتهت من كثافة مطرية سقطت عليها في حين وصولهم فوصفها المازني كأنما كنا في البندقية، كان السائق صغير السن ولكن ماهر وحذق جدًا وأثار انتباه الراكبين، وكان يحدثهم بكل فصاحة لغوية متينة وذكاء حاد فانتهى المطاف بالمازني قائلا: ورقص قلبي إعجابًا بمهارته وزلاقة لسانه، وحدثتني النفس أن أخطف ثلاثة أو أربعة من أمثاله أخفيهم في حقيبتي وأعود بهم مصر، فما رأيت مثل براعتهم وخفتهم ونشاطهم.

ورغم أن المازني كان ينقل لنا عبر كتابه بأن هنالك كثيرًا من أهل مصر لا يتصورون أن الحجازيين بأفضل حلة بل هم مثل دول أفريقيا والدول المتخلفة فإنه يغالط كل هذا الكلام لقد شاهد أطيب المأكولات الغربية والعربية والتركية على موائد الحجازيين وبأصناف لم يرها في حياته كرجل قادم من بلدان متطورة في تلك الفترة بل إن اَلطُّرُق التي كانت يُقدم بها الطعام من أرقى الطرق حداثة، وعندما أراد استخدام التليفون كانت تنقصه المهارة هو ورفاقه المثقفون ولم يطلبوا من الخادم المساعدة خشية ألا يتوهم الخادم بأنهم «همج من أفريقيا» فلقد كان الحجاز بصورة رائعة وثقافية حاضرة في الشوارع، وفي أحاديث أهلها وإداراتها وبالطبع المازني ورفاقه كان كل الاحترام يُقدم لهم كونهم ضيوف ولاقى الاستحسان في نفسه من تقدير الحجازيين والأمراء في قصورهم من ترحيب واحترام وتقدير للشعب المصري.