استلهامًا من مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان بالتسجيل في برنامج التبرع بالأعضاء، التي تعتبر لفتة أبوية حانية تجاه مرضى الفشل العضوي، هي كذلك دعوة لتشجيع وتحفيز المواطنين على التسجيل للتبرع بالأعضاء، بالإضافة إلى تعزيز الأمل لدى مرضى الفشل العضوي.

هذه المبادرة من الملك سلمان ليست الأولى ولا الأخيرة، حيث بدأت مبادراته الكريمة المتتالية منذ أكثر من أربعة عقود، حتى قبل إنشاء المركز الوطني للكلى عام 1404هـ (1984م)، وهذا ما سوف أتطرق إليه في هذا المقال. واكبت المملكة كل ما يستجد من تقدم في المجال الطبي إبان مرحلة الارتقاء بالخدمات الطبية إلى المستوى الثالث كخدمة مرجعية طبية مع بداية إنشاء المستشفيات والمراكز التخصصية في معظم القطاعات الحكومية المقدمة للرعاية الطبية، وذلك خلال العقد 1395 – 1404هـ (1975 – 1984م)، الذي يمكن اعتباره بالفترة الذهبية لاستيعابها وتوطينها للمعارف والتقنيات الطبية التخصصية الحديثة.

خلال هذه الفترة الملهمة بدأت زراعة الأعضاء وحملات التبرع بالأعضاء في المملكة. لحسن الحظ، وتزامنًا مع هذه الفترة بدأ توافد أوائل الرواد من الأطباء الاستشاريين السعوديين الحاصلين على الزمالات الطبية المتخصصة بعد فترة ابتعاثهم للدراسة في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث تسلموا الراية في تلك المستشفيات التخصصية بالإعداد والتخطيط و التنفيذ حسب خبراتهم المهنية وطموحاتهم المتوقدة.

بدأت زراعة الأعضاء في المملكة بافتتاح المركز الأول في المملكة لزراعة الكلى في مستشفى الرياض العسكري عام 1399هـ (1979م)، وقد اعتمد المركز في البداية على التبرع من أقارب المرضى، واتضح من ممارسة العمل أن إيجاد متبرع يستوفي شروط التبرع بالكلى لا يشكل إلا 30 إلى 40% من المتقدمين للتبرع لأقاربهم، وعليه باشرنا البحث عن مصادر أخرى للحصول على الكلى لغرض زراعتها. في هذه الأثناء صدر قرار هيئة كبار العلماء رقم (99) تاريخ 6/11/1402هـ (25/8/1982م) بجواز التبرع بالأعضاء من إنسان حي أو متوفي، والذي أتاح لنا المجال في بدء استخدام الأعضاء من التبرع بعد الوفاة. الخطة التي اتبعناها حتى تتم زراعة كلى داخل المملكة لأكبر عدد ممكن من المرضى الكثر على لائحة الانتظار هي أن نعمل على ثلاثة مسارات متوازية. المسار الأول أن نستمر ونشجع ما أمكن التبرع من الأقارب لأن هذا هو الأفضل ونتائجه على المدى البعيد مضمونة بإذن الله.

المسار الثاني الحصول على الكلى من التبرع بعد الوفاة من داخل المملكة، وهذا يحتاج الى وقت طويل وجهود كبيرة حتى يمكن البدأ بالعمل به، إلا أنه الأجدى على المدى البعيد. المسار الثالث وهو التعاون مع المركز الأوروبي لزراعة الأعضاء بإرسال كلى زائدة لم يتمكنوا من استخدامها حتى يتم زراعتها لمرضانا المحتاجين، ولم نعتمد على هذا المسار طويلاً وإنما هو إجراء مؤقت لكسب الوقت حتى يكتمل برنامج التبرع بعد الوفاة محليًّا.

وبالفعل قمنا بحملة وطنية مكثفة للتبرع بالكلى شملت جميع مناطق المملكة، وتم تصميم وطباعة بطاقة التبرع بالكلى بعد الوفاة للمرة الأولى في المملكة، وحرصنا على التعريف بها وتوزيعها على شتى فئات المجتمع. بالرغم من التحديات والصعوبات التي مررنا بها، سارت الخطة ذات المسارات الثلاثة بصورة جيدة، وتم زراعة أول كلية من متبرع بعد الوفاة مرسلة من أوروبا بتاريخ 6/9/1403هـ ( 16/6/1983م) وتكللت ولله الحمد بالنجاح، واستمر التعاون مع المركز الأوروبي لزراعة الأعضاء حتى عام 1990م، وكان حصيلة هذا التعاون الذي امتد لسبع سنوات زراعة (64) كلية تم استخدامها بحمد الله بنجاح.

أما على جانب مسار التبرع بعد الوفاة المحلي فقد تم بعون الله توثيق أول وفاة دماغية في المملكة وزراعة أول كلية محلية بعد الوفاة بتاريخ 30/3/1405هـ (23/12/1984م). بهذا التاريخ بدأ البرنامج الوطني للتبرع بالأعضاء بعد الوفاة الدماغية، وهذا يعني أنه ليس قاصرًا فقط على التبرع بالكلى فحسب، وإنما إمكانية التبرع بأعضاء الجسم الأخرى كلقلب والكبد وبقية الأعضاء والأنسجة الأخرى، حيث تم إجراء أول عملية زراعة قلب بتاريخ 5/6/1406هـ ( 14/2/1986م)، تبعها زراعة أول كبد في المملكة بتاريخ 6/1/1411هـ ( 28/7/ 1990م).

خلال ممارستي المهنية كطبيب في الرياض على مدار ثلاثة عقود، لفت انتباهي الحسنات الكثيرة والمتعددة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إبان توليه إمارة منطقة الرياض، ومن ضمنها أنه حفظه الله كان يُداوم على زيارة المرضى في معظم مستشفيات الرياض، ومع كثرة مسؤولياته الجسام، إلّا أنه يقضي الوقت في تحسس مطالبهم واحتياجاتهم ويوجه بما يساعد على راحة المرضى واستكمال علاجهم. وليس أدل على مثل هذه الحسنات إلّا المثال التالي.

في شهر شوال 1403هـ، كلفني الملك سلمان أدامه الله بإعداد تقرير عن أمراض الكلى ووسائل علاجها واقتراح التوصيات الملائمة لتطويرها، ومن ضمن التوصيات التي حواها التقرير التوصية بإنشاء مركز وطني لأمراض وزراعة الكلى في المملكة. رفع سموه الكريم التقرير إلى صاحب الجلالة الملك فهد بن عبدالعزيز للتكرم بالموفقة على ما حواه التقرير من توصيات، وتم بحمد الله الموافقة السامية بإنشاء المركز الوطني للكلى بتاريخ 19/5/1404هـ (20/2/1984م).

بعد إنشاء المركز كان حفظه الله يتابع ويوجه ويحل جميع التحديات والصعوبات التي واجهت مسيرة المركز، واستمرت توجيهاته الكريمة حتى بعد ما تحول المركز الوطني للكلى الى المركز السعودي لزراعة الأعضاء في عام 1413هـ (1992م). خلال مسيرة زراعة الأعضاء، كان الملك سلمان وفقه الله الموجه والسند والقدوة، وصاحب المبادرات البناءة لبرامج زراعة الأعضاء.

والمبادرة الأخيرة لتبرع بالأعضاء، هي استكمال لمبادرته لإنشاء المركز الوطني للكلى، حينما استشعر وفقه الله قبل أربعة عقود حاجة المواطن الملحة لمثل هذه الخدمة الطبية، ووجه رعاه الله على جودة أدائها وتوفيرها وإتاحتها لجميع المواطنين على امتداد أرض الوطن.