تعد مرحلة ما بين المراهقة إلى النضج، من أهم المراحل التي يمر بها الفرد في حياته، حيث يكون فيها في أوج عطائه وعز طاقته وقدرته العقلية والجسمية، من سمات هذه المرحة التمرد والتقلب والبحث عن كل ما هو جديد، ليكون المراهق موضع اهتمام وانتباه من المجتمع، ليثبت له أنه خلع عنه رداء الطفولة الذي ضاق عليه، ليلبس ثوب الشباب الذي يأمل أن يحقق من خلاله تميزا، يصنع له شخصية يحقق من خلالها استقلاليته الخاصة، التي ترسم ملامح المستقبل الذي نسجته أحلامه وميوله وأهدافه.

من أجل ذلك يتفنن المراهقون بابتكارات سلوكية غريبة، وغير مألوفة لأجيال سابقة، فباتوا يطالعوننا كل يوم بتبني موضات أو تقليعات أو صرعات جديدة، انتشرت بينهم وطالت كل مضامير الحياة، فتارة نجدهم يواكبون ويسايرون موضة جديدة في الزيّ، أو تسريحة الشعر، أو المأكل، أو المشرب، وتارة أخرى في قيادة المركبات والدراجات، واقتناء الهواتف الذكية. أو الإعجاب بثقافات مختلفة وتبني بعض من ملامحها، من خلال فرق فنية أو أفلام سينمائية.

صرعات الشباب الجديدة لم تتوقف عند ذلك الحد، إذ إنها امتدت بشكل لتشمل اللغة، لتصبح لهم لغة حوار ممتزجة اللغات واللهجات، بمشهد غريب علينا مألوف بينهم، أحاديثهم كثيرا ما تتضمن كلمات غريبة، التي لم نعتد سماعها من قبل، لغاتهم المحورة بفورة مصطلحاتها الشبابية وتقليعاتها اللفظية الغريبة، انتشرت مع الأسف في كافة المجتمعات وأخذت الألفاظ الغريبة في التنامي والانتشار، وزادت جاذبيتها بين فئات الشباب المختلفة من الجنسين، ومن شتى المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المختلفة، حتى أصبحت أسلوب التفاهم الذي لا يستوعبه سواهم.

وللأسف بات الآباء في غربة عما يسمعونه يومياً من تعابير ومفردات، تخرج من أفواه أولادهم وتتناهى إلى أسماعهم، دون أن يستطيعوا فك رموزها وطلاسمها وشفراتها، أو حتى فهم معانيها ودلالاتها المستجدة، حيث تبدو وكأنها سيارة عصف بها إعصار، أو تعرضت لوابل من أمطار النيازك، التي سقطت عليها من أماكن مجهولة.

ولعل المتتبع لتاريخ نزوع الشباب إلى ابتكار لغة خاصة بهم، يجد أنه انطلق في المجتمعات الغربية والصناعية خلال العقدين الأخيرين، لكنه تفشى لاحقاً ليشمل أغلب المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا، حيث بات الشباب يشكلون جمهورها الأوسع، والأكثر دينامية اجتماعية، والأقدر على تطويع اللغة وتسهيل استخدامها، وصولاً إلى تحويرها والعبث بها حسب حاجاتهم، فطالما استحدثوا كلمات دخيلة وولدوها بوسائلهم الخاصة، لتتماشى مع أمزجتهم، وطرق تفكيرهم، واهتماماتهم وتعبر عن أحوالهم ومشاعرهم وآرائهم.

فبدأت هذه الألفاظ المستحدثة تتردد على ألسنتهم، كل حسب وطنه الأصلي، حتى نجحت في صهر الشباب من كل هذه الطبقات في بوتقة شبابية واحدة، من خلال تعزيز رابطة الكلام المتبادل والموحد بينهم، فبدأت هذه اللغة تتغلغل وتتسلل إلى الحياة العامة، والثقافة والأغاني والإعلام ومحركات البحث، وللأسف إلى البحث العلمي.

وعلى الرغم من أن الشباب يلجأون لتلك اللغة عادةً، كأداة للتفاهم والتواصل فيما بينهم، ووسيلة للفت الانتباه والتميز، حيث يرغبون في خلق لغتهم الخاصة بهم، لرغبة شديدة منهم على الاندماج مع بعضهم البعض، إلا أن شيوع التحدث بهذه اللغة، المليئة بالمفردات والاصطلاحات والعبارات، والتركيبات الغريبة والعجيبة، أثار جدلاً كبيراً ولغطاً واسعا، فهناك من عزا هذه الظاهرة - وإن جاز إطلاق صفة الظاهرة عليها، نظرا لتفشيها بشكل كبير، بسبب طوفان الحضارة الحديثة واللغة الرقمية الجامحة - إلى السلوك التحرري للشباب، بل واعتبرها حقا من حقوق هذه الفئة، الشريحة التي باتت ترزح تحت ظروف خاصة، وتتعرض للعديد من المؤثرات والعوامل الخطيرة، التي تسيطر على حياتهم بالكامل كشبكة الإنترنت، وما حملته من ثورة في عالم الاتصال والمعرفة، والمدونات وغرف المحادثات ووسائل التواصل الاجتماعي.

في المقابل، هناك بعض التربويين وعلماء الاجتماع واللغة، اعتبروا هذه الظاهرة مؤشراً خطيراً، يعكس حالة الفراغ والتدني الأخلاقي والسلوكي لدى الشباب، نتيجة لما يعيشونه من تغريب وتقليد وتأثر بالنموذج الغربي في الحياة، هذا فضلا عما تشكله هذه الظاهرة، من تهديد لمصير اللغة العربية في حياتهم اليومية، جراء هذا التعدي، بعدما أصبحت بنية الكلمات والجمل في لغتهم كسولة، ودون معنى وفقدت ترتيبها وتركيبها النحو والصرفي الصحيح، ففقدت اللغة قيمتها وأصبحت مملة نوعًا ما في استخدام الشباب لها.

لا شك أن التطورات التي تجري في العالم من حولنا تفرض علينا الكثير من التغييرات في أنماط الحياة، وطريق التعبير عن الأفكار والآراء، وبعيدا عن النقد والسخرية والتنظير، فإن من واجبنا ككبار أن نأخذ بأيدي شبابنا إلى طريق النجاح، فليس العلم فقط هو المفتاح بل العلم والثقافة والأخلاق والتربية، والسعي لاحتواء أبنائنا من خلال التوجيه والإرشاد، وتنقية اللغة الجديدة مما تحمله من إيحاءات وإيماءات غير لائقة، مع تشجيع الجيد واللائق منها.

وعلينا أن نحذر كل الحذر أن نواجه هذا التغير بالرفض والانتقاص.. فلكل جيل ظروف مختلفة بتحديثات تفرض نفسها وإن لم نتقبلها.. لذلك فالحل في التقبل والمرونة والاحتواء منا كأهل، وكجيل ثقافته أقدم من ثقافة هذا الجيل.. مع حوارات تقرب ولا تباعد، وتسد الفجوات بدل أن تزيدها عمقاً.. بهذا فقط نستطيع أن نبقي الجذور مزروعة بثبات داخل تربة الثقافة الأصلية، حتى لو اختلف الثمر وتهجن ببعض الثقافات الأخرى.