سقطت الأقنعة في بيروت، عاصمة ما يُفترض أنها أحد القلاع العربية، اختلطت الأوراق، والسلاح تصدر المشهد، والخط الانقلابي بات مكشوفاً لمن يتفهم دهاليز السياسة اللبنانية، والعزم عُقد على أن تكون لبنان في الخانة الإيرانية وسط سكوت الجميع، خشية سلاح حزب الله.

وأريد مبدئياً أن أضع قراءة شامله للموقف وردود الأفعال القادمة من الشرق. فمن خلال متابعتي لهذا الملف؛ يُمكنني التصور بأنه لا يُمكن أن يكون العرض الاحتفالي للحزب السوري القومي الاجتماعي في «الحمراء» بقلب بيروت قبل أيام، بمعزل عن التخبطات السياسية الصادرة من تلك العاصمة، التي حولتها ميليشيات السلاح والدم، إلى محافظة تابعة لجمهورية ولاية الفقيه.

وبتحليلٍ بسيط، يفترض ربط الأمور ببعضها البعض، انطلاقاً من موقف وزير الخارجية، الذي عُزل بضغطٍ من الرأي العام السعودي وليس برغبته، ومروراً بالنأي بالنفس الذي مارسته رئاسة الجمهورية عن الدخول على خط الأزمة التي تسبب بها الوزير «العوني» مع المملكة، باعتباره –أي الوزير– يُعبر عن رأيه الشخصي، وصولاً إلى العرض الأشبه بـ«الحربي»، الذي أقدم عليه ذلك الحزب، وفق ما أره –وبعيداً عن نظرية المؤامرة– فإن ذلك نتيجة غزل خيوط عنكبوتٍ في آناء الليل، لافتعال تلك المشكلة مع الرياض، لما تمثله من ثقلٍ في المنطقة، للدخول في اللعب على المكشوف، وبالتالي الانقلاب على المشاريع العربية الخالصة التي كان يُفترض أن يكون لبنان لاعباً فيها حتى وإن كان على الأطراف. وفي ذلك أهداف بعيدة المدى، تنطلق من عزل لبنان عن محيطه العربي، وتنتهي بسيرها وفق خطٍ سياسي معاد لجميع دول المنطقة، تحت شعارات ضوضائية تصل في نهاية الأمر إلى تحقيق مصالح المشروع الفارسي، وليس لبنان واللبنانيين ولا العرب في آنٍ واحد، من خلال نُسف كل ما يُمكن أن يُصنّف على أنه إرثٌ عربي تحتويه تلك الدولة، وتحولت إلى ساحات احتفال لزعماء الشارات السوداء. وبالحديث عن مفهوم سياسة «النأي بالنفس»، فقد كرست له الدولة اللبنانية في السنوات الماضية، من خلال مطالبتها بعودة جهات سياسية تدخلت في الأزمة السورية التي نشبت عام 2011، إلا أن تلك الأطراف لا تزال تضع كل ثقلها في ذلك الملف بتوجيهٍ إيراني بحت، دون اكتراث للدولة التي اعتادت على الضعف والهوان، حتى وصل الأمر إلى ممارسة المبدأ ذاته مع وزير الخارجية، الذي يُفترض أن يكون الصوت الأول لسياسة أي دولة في العالم. وهذا ربما يشير إلى أن الأمر اشبه بـ«شيفرة» لبعض الأطراف السياسية، تُعبر عن منح الضوء الأخضر للبعض بأن يقفز على الأعراف السياسية، لتمرير ما يُمكن تمريره من أجندات لا تمت للقوانين الدولية ولا لشكل العلاقات الثنائية بين دولة وأخرى بأي صلة.

إن ما يُمكن تسميته الأعراف والسياسة اللبنانية باتت مفضوحةً ومكشوفة لدى الجميع، بعد أن أسهم بعض السياسيين بإثبات فشله على عدة أصعدة، أولها انفضاح المؤامرة التي تستهدف الإضرار بالعلاقة مع المملكة العربية السعودية من خلال التملص من موقف وزير الخارجية والمحسوب على التيار الوطني الحر، في خطوة أشبه ما يُمكن أن يتم وصفها بـ«الجهل السياسي»، وثانيها يُثبت أن لبنان بات بالمجمل مجرد تابع يؤتمر من الضاحية، التي يُنفذ زعماؤها القابعين في جحورها أوامر قادمة من طهران، وثالثها، الانخراط في مشروع بعيداً عن كونه إيراني، إلا أن يعمل على الإضرار بالعالم العربي وقضاياه.

ثمة ما يُمكن أن يكون مبرراً لتحويل النظرة السياسية للدولة اللبنانية إلى أقل من دونية، استناداً على العرف السياسي السائد، وذلك ما انعكس بشكل سلبي على الصورة العامة للبلاد. ولا يفوتني في هذا الصدد التذكير بأن حالة «السقوط الأخلاقي» التي تحتمه أزمة «شربل»، لم يعقبها أي اعتذار سياسي، من قبل الدولة تجاه المملكة، وهذا يشير إلى أنه ربما تكون السياسة اللبنانية اعتمدت على الحشود الوافدة لمنزل السفير السعودي، وهي التي لا يمكنها أن تؤدي دوراً سياسيا مُناطا بالدولة، الواضح أنها تتبنى وجهة نظر الوزير بما لا يدع للشك مجال. وهذا يعني جهلٌ مُطلق بأبسط مقومات الأنظمة السياسية، ويؤكد في الوقت ذاته ضعف الإرادة اللبنانية التي من المفترض أن تكون حريصة كل الحرص على أن يكون لها القيمة المعنوية في الطابور العربي.

أجزم أن عودة لبنان لشكل الدولة بحاجة إلى حملة تصحيح مفاهيم كبرى، وذلك لسد باب الراغب من اللبنانيين انفسهم بعودة «المستعمر الفرنسي»، الذي أطل برأسه بعد أزمة انفجار مرفأ بيروت وقُتلت نتائج التحقيق في أسبابه أكثر من عام. إن لبنان الذي كان منارةً في العلم والثقافة والادب خلال فترة تاريخية ماضية غارقٌ في حالات سياسية، تبدأ من اصطفاف يعود لاستقراء بعض الاطراف على الدولة بالخارج، وتنتهي بحالة من التيه يعاني منها المواطن اللبناني بالدرجة الأولى نظيرابتعاد السلطة الحاكمة عن الواقعية التي يمكن أن يحول البلاد من مستنقع الخصومات والتناحر الإقليمي والدولي، والانصراف عن التفكير بمنطق الدولة نتيجة سيطرة الحزبية السياسية على الذهنية العامة في لبنان.

أعلم أن ذلك حلماً صعب المنال.. وأماني تصطدم بالكثير من المعضلات، لكن لنتمنى أن تعود تلك البقعة إلى جمالها السابق.. وإلى ذلك الحين، فلنتمنى ونحلم.