لطالما حدثتُ نفسي متسائلاً: ماذا لو استيقظت في الصباح على منظر نُفوق كائنات حيَّة في الشارع؟! ماذا لو كانت الأشجار في الشارع تُزْرَع ميتةً لا حياةَ فيها؟!

ماذا لو باتت الشوارع تُنْشَأ بلا لوحاتٍ وأسماء؟! أليس في ذلك مدعاة للاستغراب والنظر؟!

رغم أن حديث النفس هذا مجرد تساؤلات افتراضية، إلا أن لها في الواقع ما يحفزها من مشاهد يومية مماثلة لها، لكنها بطريقة مختلفة!.

تتبدى لي في كل يوم تقريبًا، مجتمعة في لحظةٍ واحدةٍ، حين أجدني -على سبيل المثال- عالقًا في أحد الشوارع، أدور حول ما يسمى «الدوّار»، خاصةً عندما يكون في منتصفه قد نُصِب مجسمًا أو تمثالاً ليس لشكله ما يدل عليه، ولأنه كذلك فإنني لا أتوقف عن الدوران إلا بعد ما أُصَاب بالتعب والملل، ثم أسلك أحد المسارات مبتعدًا عنه، الأمر الذي لا يقتصر على «الدوّار» فقط، بل يتكرر معي في أمكنة أخرى غيره، تضم مجسمات وتماثيلَ بذات الأسلوب.

لا أستطيع إيجاد معنًى لوجود التمثال أو المجسَّم الذي كنتُ أدور حوله، أو ذاك الآخر الذي وقفتُ قريبًا منه؛ إذ إن معظمها ليست على شكل شيء ما، ولا ترمز لشيء ما، سواءً أكان تاريخيًّا أو معاصرًا، إنسانيًّا أو غير ذلك، وفي الغالب هي لا تحمل لمسات، وأبعادًا، وروحًا فنية! هذا إلى جانب أن لا طابع لها يعبّر عن المدينة المحتضنة إياها؛ يُفصح للرائي والزائر عن الجانب الحضاري والثقافي والتاريخي، باستثناء قلة منها، ربما هي غامضة لدرجة أنه من الصعب أو المستحيل الوصول إلى معرفة من هو صاحب فكرتها؟! وهل خلفها فنان قد أبدعها بأسلوبه أم لا؟.

إنها تماثيل ومجسَّمات منتشرة في الشوارع بلا مدلولات واضحة نستطيع إدراكها أو حتى الاقتراب منها إلى حد ما. تقع أنظارنا عليها في كل يوم، وكأنها كائنات نافقة، دون أن ننتبه إليها، نمر بجوارها وهي لا تحمل أسماء، وعلى إثر ذلك يتسلل إليها بعد مدة من الزمن اسم مشتق من محيطها، بدل العكس، أن يكتسب محيطها -أو أجزاء منه- الاسم والوصف منها، هي أصلاً نُصبت في الشوارع بلا قيمة معنوية، كما هي الأشجار التي لا يمكن أن تُزْرَع ميتة، وبالتالي لا يمكن لها أن تُعطي شيئًا للمحيط من حولها. لقد خلق ذلك معاناة يومية، بالنسبة للرائين -بتمعُّن واهتمام- إلى تلك المجسمات والتماثيل، تكمن في عدم القدرة على إيجاد وتيرة بين كل ذلك «التفريغ المعنوي في الشارع» تُفْضِي إلى تصوُّر منسجم ومريح، بدل النفور، يتفق مع شمولية المكان، مانحًا شعورًا بالانتماء، لا غير ذلك ممَّا يدعو للاستغراب، ويولّد تساؤلات مشروعة لابد منها هنا:

لماذا لا نرى مجسمات جمالية بفن حقيقي، تنطوي على معنى، وفكرة مرتبطة بسياقها الطبيعي والبيئة المحيطة بها؟! لماذا لا نرى تماثيل لشخصيات سياسية وتاريخية بارزة ومهمة، تضيف قيمةً وعمقًا في ميادين شوارعنا، وتحدثنا عن ثروة التاريخ السياسي المتراكم لدينا، مثل الملك عبدالعزيز -طيَّب الله ثراه-؟! وملوك المملكة العربية السعودية من بعده، بالإضافة إلى آخرين غيرهم,

كذلك لماذا لا نرى شخصيات ثقافية، وأدبية، ودينية، تُزيّن ميادين شوارعنا، وتعكس لنا -كالمرآة- رصيدنا الوافر في هذه المجالات.

حقيقة، ليس الإشكال لدينا في إمكانات الفنان التشكيلي وإبداعه، ولا في حضوره، ولا في إرادته، بل هو صراحة في عدم الاستعانة به، لأسباب عديدة منها -وأهمها ربما- القطيعة مع الفنون عمومًا، ومناخ الوعي والفكر، وغيرها من الأسباب التي يصبح الحديثُ عنها ذا شجون. ومهما كانت الأسباب والمعوّقات التي منعت الاستعانة بالفن التشكيلي، وعمل مجسَّمات ذات معنى، وتماثيل لشخصيات وطنية معروفة، فإنها لم تمنع وجودها من حيث المبدأ، وكل ما هنالك أنها منعت الجمال والقيمة من إغناء الشوارع، وكانت بالوقت ذاته أسبابًا للتشوه والخلل اللذين نراهما في معظم التماثيل والمجسمات في شوارعنا التي هي أجمل بدونها بلا شك.