قرأت باستغراب رد أحمد الرضيمان على مقالي حول علاقة الدين بالسياسة، الذي استخدم فيه الطريقة المألوفة لدى جماعات الإسلام السياسي في التخفي وراء العبارات الملتبسة، وتحميل كلام العلماء المعتمدين في بلدنا ما لم يقولوه، بل تأويل النظم العامة ما لم تعنيه.

ولنبدأ بأطروحته المركزية في الدفاع عن كون الإمامة من أصول الدين، وهي أطروحة اعتبر أنها من المسلمات، والاعتراض عليها يدخل في مزالق عقدية، وهي نغمة مألوفة لدى التكفيريين الذين يرفعون سقف الإجماع الموهوم ضد خصومهم في النظر والتأويل.

ألا يعرف فقيهنا المحترم أن الشيعة وحدهم هم من اعتبروا الإمامة من أصول الاعتقاد، وأن أهل السنة خالفوهم، لأنهم لا يقولون بالوصية، وإنما بكون السلطة مصلحة وحاجة ضرورية لا خلافة عن النبوة. ألا يعرف أن شيخ الإسلام «ابن تيمية» ألف كتابه «منهاج السنة» للرد على الشيعة في عقيدة الإمامة.

ما رأيه في هذا القول الذي نورده لـ«ابن تيمية»، ويعني هنا أهل السنة: «بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان وصار إماما».

الإمامة إذن قدرة وشوكة وسلطة، وليست وظيفة دينية، وهذا كلام «ابن تيمية»، بل الأساس فيها هو العدل والمصلحة لا أكثر. وإليك كلام «ابن القيم» الذي لاكته الألسن: «فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثمّ شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله - تعالى - لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدلّ وأظهر!، بل بيّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها».

أين هذا الكلام من أفكار الإسلام السياسي التي تقول: «إن الإسلام دين ودولة، وإن له نظام حكم مخصوص»، وهي أقوال لم يعرفها أئمة السلفية في هذه البلاد قبل دخول الإخوان واستيلائهم على التعليم والدعوة والإعلام، إلى حد التباس أقوال أهل العلم المعتبرة في الإمامة بأفكار «البنا» و«عبد القادرعودة» و«سيد قطب» في تسييس الدين وأدلجته.

هل يحتاج فقيهنا إلى أن نورد له مزيدا من نصوص كبار علماء أهل السنة في كون الإمامة من الفروع لا أصول الاعتقاد؟. حسنا، ها هي نصوص قوية، جلية الدلالة:

هذا هو شيخ الإسلام أبو حامد الغزالي، يقول:

«إعلم أن النظر في الإمامة أيضا ليس من المهمات، وليس أيضا من فن المعقولات، بل من الفقهيات، ثم إنها مثار للتعصبات، والمُعْرِض عن الخوض فيها أسلم من الخائض».

وهذا الإمام سعد الدين التفتازاني، يقول بوضوح لا لبس فيه:

«لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أَليق، لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة، ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل أحد، ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية».

هل تأكيد ما قاله علماء أهل السنة في عصور الإسلام المختلفة منزلق في العقيدة، في حين تكون آراء كتاب الإخوان، ومن تبعهم من السلفيين هو الحق الذي من خرج عنه تنكب الصواب، إن لم يخرج من الملة؟!.

أنصح فقيهنا أن يقرأ كتاب أبي الحسن الندوي، وهو العالم المحدث الأصولي، وأحد مؤسسي رابطة العالم الإسلامي، بعنوان «التفسير السياسي للإسلام»، وفيه رد صريح واضح على نهج «تسييس الدين».

أما الاستدلال بنص النظام السياسي للحكم من أجل تبرير «تسييس الدين»، فأمر مثير للاستهزاء، وإنما يظهر من النص الذي أورده الفقيه ما هو معروف من كون شرعية الحكم في المملكة تقوم على القرآن والسنة وأحكام الشريعة، وهو أمر لا اعتراض عليه، بل إن كل دول العالم العربي (باستثناء لبنان الذي له وضع خاص) تؤكد في دساتيرها أن الإسلام دين الدولة، فلا أحد يدافع عن فصل الدين عن الدولة، ولا أحد يقبل أن تستولي جماعات الإسلام السياسي على الدين، لتقسيم صفوف الأمة، بل إشراف الدولة على الدين من الضروريات التي لا تخفى على أحد.

إن الخلاف ليس حول شرعية الدين وولايته العامة، وإنما على تحويل الدين إلى نمط من السياسة والأيديولوجيا، ومن يرجع إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يدرك، دون عناء، أن الغرض من الدين هو النجاة في الآخرة، أما أمور الدولة، فالأساس فيها هو العدل والأمن، دون بيان تفصيلي. السياسة هي مجال المصالح المتقلبة والتقديرات الظنية، فهل نربط بها الدين بقداسته؟.

ويبدو مشكل فقيهنا أنه تأثر بفكر ما حتى لم يعد يدرك الفرق بين الدين والسياسة، وإن انتقد، لم يرد أكثر من أن اصحابه لم يطبقوا مشروعهم الحقيقي، الذي لا يعترض عليه أصلا، أي تفسيرهم السياسي للدين.

أما أنا فاستند إلى «ابن تيمية» و«ابن القيم» وعلماء السلف الأوائل، وعلماء الأزهر الذين عاصروا قيام دعوة الإخوان مثل الإمامين محمد مصطفى المراغي ومحمد شلتوت في رفض «تسييس الدين»، وأواصل القول مع أئمة أهل السنة بأن الإمامة من الفروع والظنيات وفروض الكفاية، وليست من أصول الاعتقاد.