يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: «إن نجاح الموقف السلفي في تجديد فهم الدين بالرجوع إلى ينابيعه الأولى مثل نجاحه - أو بالأحرى نجاح إسهامه - في تجديد أساليب اللغة العربية بالرجوع بها إلى ما كانت عليه في عهد ازدهارها. شيء طبيعي تماما، فالتجديد في الدين لا يعني إضافة أشياء جديدة عليه، ولا تطوير أو تحديث تعاليمه، فالدين بالتعريف وحي إلهي، لا يخضع للتطور والتجديد بهذا المعنى، وإنما الذي يتطور ويتجدد هو فهم الناس له، وذلك يكون بالرجوع إلى ينابيعه الأولى، ومحاولة بناء فهم جديد لها يساير العصر والتطور».

يطرح «الجابري» هنا وجهات نظر مثيرة للاهتمام، تتعلق بآلية التجديد في المنهج السلفي. وحسب «الجابري»، فالوحي ثابت لا يتغير، ولا يخضع للتطور والتجديد، وزمن نزول الوحي هو زمن السلف الصالح، وهو المثال الأعلى والنموذج الأسمى عند الفقهاء، والعودة لزمن الوحي وفهم تعاليمه وقيمه لا يكون إلا بواسطة اللغة ومن خلالها، فالمنهج السلفي في حقيقته ليس إلا منهجا لغويا، تمثل اللغة العربية أهم أدواته المعرفية.

كيف نستطيع في مقالنا اليوم أن نربط بين المنهج السلفي وبين فلسفة أفلاطون؟، وتحديدا فلسفته الشهيرة المتعلقة بعالم المُثُل، التي تعرف بـ«نظرية المُثُل»، والتي قد تسلط الضوء على حقيقة «أفلاطون»، وحقيقة فلسفته إذا عرفنا ماذا يقصد بعالم المُثُل.

«المُثُل»، كما يصفها «أفلاطون»، مفاهيم وقيم كلية ومطلقة، وبفضل استقلالها وثباتها وعدم قابليتها للتغير الدائم، فإنه يعتبرها الوجود الحقيقي الوحيد، والمعرفة اليقينية المفارقة لكل مادي وحسي ومتغير، حيث كان «أفلاطون» يرفض فكرة نسبية الحقيقة، لأنها لا تستند على معيار أو قاعدة ثابتة، بعكس المعرفة اليقينية الثابتة التي موضوعها المُثُل، والتي تؤدي بدورها إلى اكتساب العلم الحقيقي.

«أفلاطون» يفرق بين المعرفة اليقينية، وموضوعها المُثُل، وبين المعرفة غير الحقيقية، وموضوعها الإدراكات والانطباعات الحسية المتغيرة والآراء الذاتية المتفاوتة، فالسلوك الأخلاقي الكامل يقوم، حسب «أفلاطون»، على قيم أزلية ثابتة في ذاتها وغير متغيرة عند البشر كافة. والسؤال هنا: كيف يمكن لنا معرفة هذه القيم الأزلية، وموضوعها المُثُل، التي تمثل عالم الحقيقة الثابتة غير المتغيرة عند «أفلاطون»؟.

يقول الفيلسوف النمساوي كارل بوبر، واصفا مدينة أفلاطون «الفاضلة»: «إن نموذج أو أصل مدينته الفاضلة يمكن أن يوجد في الماضي البعيد، في عصر ذهبي موجود في فجر التاريخ، لأنه لو كان العالم يتحلل مع الزمن، إذن لوجدنا الكمال يزداد كلما عدنا أكثر صوب الماضي، فالمدينة الفاضلة شيء ما شبيه بالسلف الأول، الأب الأول للمدن المتأخرة».

مدينة أفلاطون، مدينة المُثُل والقيم الثابتة التي لا تتأثر بصيرورة المجتمع والمعتقدات، وحركة الزمان والمكان، والعودة لفهم السلف الأفلاطوني، تكون عبر «الديالكتيك» أو الجدل، وهنا يكمن وجه الاختلاف بين النظرية الفقهية القائمة على اللغة، وبين نظرية أفلاطون القائمة على الجدل.

العودة لزمن الوحي تتطلب تجديدا لغويا متكاملا، لا يقصد به التقليد، بل يتجاوزه نحو مجال أوسع وأرحب، نحو مجال تجديد الفهم للدين انطلاقا من نصوصه، وما يتطلبه ذلك من تقديم نظريات في مختلف جوانب اللغة مثل النحو والبيان والبلاغة، وأساليب التعبير المتداولة عند العرب في زمن نزول الوحي، حيث قدمت هذه النظريات حلولا عملية متفوقة وفريدة، قائمة على الاستقراء والتجربة، والبحث عن العلل بعيدا عن الحلول المثالية أو الرومانسية التي تميزت بها نظرية المُثُل لأفلاطون. فإزالة ما تراكم في سلوكيات المسلمين، من أعراف وتقاليد ومعتقدات طارئة، سيكون عبر العودة لنصوص الوحي، وفهم سيرة السلف الذين وصف النبي، صلى الله عليه وسلم، عصرهم بقوله: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».