السخرية في الأدب فن رفيع يهاجمه من لا قدرة له عليه، أو من لا يستطيع فهم إشاراته التي تأتي مغلفة بالنكتة أو بالمعني الموارب.

وربما دائمًا تحمل في طياتها «لازمة» وكل لبيب بالإشارة يفهم، وأنا لا أقول أن العامية يجب أن تتغلب على الفصحى، أو حتى في معايير اللغويين تساويها، ولكنها فن لا مجال لإنكاره أو «السخرية» منه.

هناك أفذاذ من الأدباء في العالم اشتهروا بالسخرية، نعم هناك أيضًا سخرية بالفصحى، ولكنها أقوال وحكم لهم، ولكن ليست مشاريع كبيرة كمسرحيات وكتابات يومية أو أسبوعية، وطبعًا تظل من جماليات السخرية ورفيعها، إنما معظم المسرحيات والأفلام الفكاهية الزاخرة بالسخرية وحتى الكاريكاتير هي باللهجة الدارجة، والتي هي السلاح الطيع للنقد بحرية وربما بكلمة أو اثنتين، تكفيان عن صفحات.

والمزاج الشعبي هو الرغبة في التهكم الساخر الذي يثير الضحك، وكذا ينتقد ظاهرة مجتمعية تشغل بال المجتمع، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أسرية.

أيضًا النكتة وهي قمة السخرية وهي لا تروى إلا باللهجة الشعبية للمجتمع حسب ثقافته ومرادفاته المتناولة يوميًا، بل حتى الأغاني كلها إلا ما ندر هي باللهجة الشعبية، إضافة إلى الزجل الذي برع فيه كتاب كبار منهم بيرم التونسي وكامل الشناوي وأحمد نجم وجاهين.

بعض النقاد سواء الأدباء أو من عامة القراء يرون أن النقد الجاد هو الأفضل، ويريدون كل كاتب أن يكون جادًا، علمًا أن معظم الكتاب إن لم نقل كلهم جادين، وما هو الجديد، فالجاد يملأ الساحة النقدية.

قد يظن البعض أن النقد الشعبي الساخر بسيط وتحصيل حاصل، وأنه يهبط بقيمة الكاتب، لكن الرد إذا هو أين هم الكتاب الساخرون، سهل أن تُبكي العالم وترمي بالحزن هنا وهناك، خاصة أن المآسي كما الهم على القلب، ومن كل بستان شوكة، ولكن حمل البهجة لهم قد تكون في هذا الزمان مثل لبن العصفور.

إن موهبة النكتة والسخرية التي لا تصل إلى النيل من أسرار الناس ولا تصل إلى بيوتهم وخصوصياتهم وتتسم بحدود الأدب إنما تنقل مظاهر مجتمعية. فتنتقدها بأسلوب سهل ممتنع تظل نتاجًا مطلوبًا ومهمًا.

السخرية هي إضافة إلى المجال النقدي بروح مرحة.. لقد ملّ العالم من الكآبة.. إن قائمة الكتاب الساخرين تشمل قامات شامخة إن كما أسلفت باللغة الفصحي، أو الغالب بالعامية.

وفي العالم العربي هناك أسماء لمعت ووقف لها الأدباء رافعين القبعات، وكانوا شركاء في المسيرة الأدبية مع قامات عظيمة في الأدب الجاد.

لقد راجعت فوجدت كثيرًا من الكتاب انتقدوا عدم وجود النقد الساخر على الساحة الأدبية إلا ما ندر، خاصة في ساحتنا الأدبية، ويتذكرون أفذاذًا في النقد الساخر والشعبي منه بالذات كالأستاذ الكبير أحمد قنديل الذي له صولات وجولات في الشعر الشعبي، وهو الأديب الكبير في الفصحي أيضًا.

وكذا الشعراء الأفذاذ حمزة شحاته ومحمد حسن عواد والكاتب الساخر أمين سالم رويحي «أبو حياة» ومحمد صادق دياب وبالذات في برنامجه الإذاعي كلام على قد الكلام.

ومن الكتاب الذين تساءلوا أين النقد الساخر أذكر سعد الحميدين وعلي الحسون في مقالات مفردة بهذا الشأن، وكذلك ما كتبه الأستاذ الكبير سمير عطا الله في جريدة «الشرق الأوسط» في عددها يوم 5 يونيو 2020 حيث يقول: «دليل على أن الكتابة الساخرة هي أصعب أنواع الكتابة ندرة كتابها، مقابل عشرات الأدباء والشعراء والمفكرين»، وتساءل «أين اختفى الساخرون بعد المازني ومحمد عفيفي ومحمود السعدني»، وأضيف من عندي من الكتاب الساخرين في العالم العربي أحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين ومحمود السعدني وجمال عامر وأحمد رجب وإيهاب معوض، وهؤلاء كلهم كانوا يكتبون كثيرًا بالعامية شعرًا ونثرًا.

وفي العالم ثلة من كتاب الأدب الساخر منها مارك توين وبرنارد شو والروسي ميخائيل جفا نتسكي الذي نال أعلى الأوسمة بل أسموه حبًا في أدبه الساخر «حبيب الشعب»، وقد توفي قبل أشهر وأعلنت مدينته أوديسا يوم وفاته حدادًا، وقد عزى الرئيس الروسي بوتين أسرته ومدينته بوفاته. تقديرًا لما قدمه في النقد الساخر.

الخلاصة أن الأدب الساخر بشقيه بالفصحى أو العامية يحمل هموم الناس إلى من يهمه الأمر، بأقصر طريق فكلماته المحدودة في كثير من الأحيان تكون أسهمًا تهز كثيرًا من كراسي بعض ذوي الاستبداد، وتدور على كل لسان ببساطة، ولا تموت بل يتداولها جيل بعد آخر، فهي صالحة لكل زمان ومكان، أليست هي لغة الشعوب وفاكهته وفكاهته ورسالته من تحت الماء ومن فوقه، والتي لا تستطيع أقوى سلطة أن تقمعها. فهي لسان حال البسطاء. وميديا من لا يد له ولا مال.