ما زالت الجامعات تحتاج إلى الكثير من التنظيم المؤسسي والتطوير الأكاديمي لأدائها، في جميع منظومتها التعليمية والإدارية، على الرغم من إطلاق نظام الجامعات الجديد للتنفيذ والتطبيق، والذي اختصت به ثلاث جامعات رئيسة رشحت من قبل وزارة التعليم، لتكون نموذجاً يحتذى به للتطبيق، وذلك بعد العمل على تطوير أدائها، وتحسين مستوى برامجها الأكاديمية، لاعتمادها مؤسسيا وبرامجيا من هيئة تقويم التعليم والتدريب، أو من مؤسسات وهيئات عالمية معروفة ومتخصصة، ومشهود لها بالنزاهة والجودة في التقييم والحوكمة.

عملت الجامعات المرشحة على تحسين عطائها بناء على معايير مؤسسية وأكاديمية محددة، في ضوء ما يتداول إعلاميا إلى حد ما.

التساؤل المطروح، ماذا عن الجامعات الأخرى التي ما زالت تسير على نهجها العشوائي، وفوضاها الإدارية وجمودها الأكاديمي وغيره من الإخفاقات؟!. أليست ضمن مجموعة التعليم العالي المحسوبة على وزارة التعليم؟، ولماذا خرجت من تحت عباءة الوزارة التي تمثل مظلتها الرسمية، قبل اعتماد برامجها ومأسستها بمعايير نظام الجامعات الجديد؟!. وهل نظام الجامعات الجديد طبق على جميع الجامعات فعلياً، أم شكلياً ودون إشعار معلن؟، وما هي المرجعية المؤسسية أو القانونية التي يمكن للمواطن والمستفيد والباحث الرجوع إليها فيما يخص الجامعات، وما يتعلق بها من إشكالات وانفلات يتعارض مع رؤيتنا وأهدافنا الإستراتيجية؟!

منذ الإعلان عن مشروع نظام الجامعات الجديد كمقترح بداية، ثم البدء في تنفيذه لاحقا كنظام مستجد، ودون إجراء تغيير جوهري في محتواه أو تطوير لمسؤولياته المقترحة، رغم تناوله بالنقاش والتحليل في كلتا المرحلتين، فإنه في ضوء ما نشهده من إخفاقات قائمة في أداء التعليم العالي إدارياً ومؤسسياً، مع جمود أكاديمي للبرامج والسياسات، نؤكد أن تلك النتائج كانت متوقعة وظاهرة منذ البداية، عندما كان النظام وليدا ومقترحا، لعدم مناسبته للتطبيق في ظل تراجع البنية المؤسسية والأكاديمية للجامعات، مع ضعف قدرتها على تصحيح واقعها المهترئ، ليأتي النظام الجديد وهي على حالتها تلك، ويعزز من استقلالها، وليسهم في مزيد من الضعف والخروج عن إطار التنظيم المؤسسي وجودة المتابعة والحوكمة النزيهة لأدائها، والذي كان نتيجة لتراكمات تكونت عبر عقود من السنين، حتى قويت شوكتها، واشتد عودها، عند إلغاء وزارة التعليم العالي، كمظلة رسمية للجامعات، ذات مسؤولية محددة ومعروفة، وضُمت الجامعات إلى وزارة التعليم بجميع مسؤولياتها المتشابكة والمعقدة.

لعل من أهم ما استهدفه النظام الجديد للجامعات هو استقلالية الجامعات، واعتمادها الرئيس على تنظيم أمورها المؤسسية والأكاديمية والإدارية والمالية، بناء على ما تستحدثه كل جامعة من مشروعات استثمارية، وبرامج أكاديمية وأوقاف وغيره، لتكون مصدر دخل مادي للجامعة، علاوة على ما تدعم به رسميا، وذلك في ظل إنشاء ما سُمي «بمجلس الجامعات»، كمظلة إدارية عليا، تتبع وزارة التعليم -ولو شكليا-، بالإضافة إلى إنشاء ما أطلق عليه «مجلس الأمناء» في كل جامعة، والذي يمثل الجهة الداخلية المسؤولة عن تقييم أداء الجامعة وفق ما ورد في التنظيم، ويكون هو القطاع التنظيمي الجديد، في حوكمة الجامعة من جهة، وحلقة الوصل بينها وبين مجلس الجامعات؛ وذلك على الرغم من أن «رئيس الجامعة» وبعض من وكلائه أو الأعضاء في الجامعة، يمثلون عددا من مجلس الأمناء!!.

سعت الجامعات إلى تلك الاستقلالية التي مُنحت لها نظاما، أسوة بالجامعات الأخرى العالمية التي تتمتع باستقلالية تامة، وتعتمد على مواردها الذاتية، وتضع نظامها المؤسسي الذي يخدم توجهاتها ويحقق أهدافها العلمية والأكاديمية، بما يسهم في تقدم مكانتها بين الجامعات الأخرى عالمياً، بناء على مستوى جودتها ونزاهتها.

وهنا تبرز الحقيقة التي تفرض نفسها، وتستوجب التساؤل المقلق؛ هل هناك تشابه بل ومقاربة بين جامعاتنا في نظامها المستقل، وبين الجامعات العالمية المستقلة في تنظيمها المؤسسي والإداري والأكاديمي؟، وهل هناك محاكاة لمستوى التطوير المأمول والمتابعة لبرامجها الأكاديمية؟، وهل يوجد نظام، تحتكم إليه في حوكمة ومحاسبة جميع منسوبي الجامعة من قمة الهرم المؤسسي وحتى أدناه؟، كما يحدث في جامعات العالم المتميزة؟، وهل هناك مراقبة ومتابعة خارجية نزيهة، لجميع ما تحتويه الجامعة تحت مظلتها من موارد بشرية ومادية وغيره؟!.

عندما نطالب بإجراءات تطويرية، ونسعى إلى تحسين مخرجاتنا العلمية، ونستهدف الارتقاء بمؤسساتنا - جميعها سواء التعليمية أو غيرها - فإننا مطالبون كذلك بالاستفادة من محاكاة تجارب المؤسسات العالمية النظيرة لها، في جميع مسؤولياتها وتكاليفها وحوكمتها، بحيث نطبق جميع البرامج والسياسات والخطط والآليات المتخذة في تلك المؤسسات المتميزة، وألا تكون عملية المحاكاة أو التقليد «انتقائية»، نختار منها ما يناسبنا ويناسب تطلعاتنا الخاصة، ونستبعد ما تحكمنا قوانينه ويكبل نظامه تطلعاتنا.

استقلال الجامعات، وهي تحتفظ بتراكمات من الإخفاقات والاختلالات الإدارية والأكاديمية؛ سيزيد من ضعفها، ويعزز مما تعانيه من فوضى إدارية وانفلات مالي، وسيسهم في مزيد من الجمود والعشوائية الأكاديمية والتسيب المؤسسي، والذي يحتاج جميعه إلى مساءلة ومحاسبة وحوكمة خارجية، في جميع مدخلاته ومخرجاته.

نحتاج إلى هيئة عليا أو «مجلس مسؤول عن التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار»، بحيث يكون مجلس الجامعات المنشأ، تحت مظلته بعيداً عن وزارة التعليم؛ لكونها مثقلة بأعبائها ومشتتة في مشكلاتها المتعلقة بالتعليم العام، وموارده البشرية ونظامه المؤسسي وسياساته وغيرها، والذي يحول دون قدرتها على احتواء التعليم العالي، بجميع مقدراته وإشكالاته؛ لضبطه وحوكمته.