بصحبة جاري القديم الوفي، عالم الاقتصاد وأستاذه بجامعة الملك عبدالعزيز، الدكتور درويش صديق جستنية، وابنه الفيزيائي الدكتور صديق؛ ذهبت لزيارة ابن صديق والدي وحبيبه، الدكتور محمود بن محمد سفر، في داره العامرة بجدة، مساء الإثنين الماضي، بعد بعض انقطاع، سببته ظروف جائحة كورونا.

استقبلنا حبيب الكل، الدكتور محمود، ببشاشته المعهودة، وتقاسيمه المكية الواضحة، وتبادلنا الأحاديث عن الوالدين، رحمهما الله، وعن محبوبته «مكة المكرمة»، وقضينا لحظات ممتعة حقا، أوجبت علي أن أقوم بتسطير بعض شجونها، في مقالي هذا، الذي أعتبره غيضا من فيض، عن هذه الشخصية الرائدة الجميلة.

الرائد الكبير، أستاذ الهندسة المدنية، محمود بن محمد سفر السفياني، ينتمي إلى قبيلة (آل حجة)، وديارها (شفا بني سفيان) بمدينة (الطائف)، صاحب سيرة علمية وعملية حافلة ومعروفة، ومن محطاته أنه كان «أول» رئيس مؤسس لجامعة الخليج العربي، وهو من أرسى قواعدها، وقام مشرفاً على تأسيسها، ووضع الأنظمة والترتيبات لانطلاقتها الأولى من مملكة البحرين، و«وزيراً» للحج، يشهد له المنصفون بأنه أثناء منحه الثقة، قام بتغييرات جذرية في مسار الوزارة ومنهجيتها، تخلل ذلك إطلاقه شعار «خدمة الحجاج شرف لنا»، واستطاع أن يصل بهذا المفهوم الجديد في الخدمة، إلى العاملين معه في خدمة الحجيج، من أصغر مرتبة، إلى قمة الهرم، مع تقديمه عدداً من المبادرات التي أسهمت في بلورة صورة جديدة لتغيير نمطية مكاتب خدمة الحجيج، ونشاط غير مسبوق في العمل الميداني، وتوطيد لمعاني الابتكار في التفكير، والاعتبار في التنفيذ، والذاكرة تحفظ قوله: «أنا أول وزير حج يعتمد مبدأ الشفافية مع (الشرسين)»؛ وبين الوظيفتين كان «عضوا» في الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى بمجلس التعاون الخليجي، و«ملحقاً ثقافياً» في الولايات المتحدة، و«أميناً عاماً» للمجلس الأعلى للجامعات، وغيرها..

في تلك الأمسية الجميلة وجدت الدكتور محمود، كما أعرفه، شخصية متقنة للحديث، مستعملا عباراته الفصيحة التي يهوى الحديث بها، مع ذكريات حاضرة جميلة لبكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة القاهرة، ودبلوم الإدارة العليا، وماجستير ميكانيكا التربة وهندسة الأساسات، من جامعة ستانفورد بأمريكا، والدكتوراه في الهندسة الجيوتقنية من جامعة كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية، ووجدته ذلك المثقف، الذي تليق به كلمة المثقف الحقيقي؛ وسألته لما وجدت الكتب أمام طاولته، عن وقته، فقال وقتي مرتب، وجزء كبير منه مخصص للقراءة، وخصوصا القرآن الكريم؛ ووجدته، كما يعرفه محبوه، ذلك العالم الفاضل، والتربوي البارع، والمفكر والأديب والباحث، والجامع لجمال النفس، وللحفاوة بالمعرفة؛ ولم أستعجب، فقد قال يوماً عن «العلم»: إنه الذي يمنح التخطيط السليم لغد كل أمة يكون هاجسها دائماً: تنظيم حياتها، وتطوير طاقاتها البشرية حتى يبلغ الإنسان معنى وتوجيه وأبعاد قوله تعالى: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى»..

أسأل الله، تعالى، أن يبارك في عمر الدكتور محمود سفر، ويمنحه المزيد من الصحة والعافية، وأن يجازيه خيراً عن مقدري فكره وطرحه، وإسهاماته في مجال المعرفة والكلمة، وعن الذين أحبوا وطنيته، واستمتعوا بحواراته عن مصلحة الوطن، وقيمة الإنسان فيه.