يبدو السؤال مستفزا بعض الشيء، لكن كثيرين من الذين زاروا لندن لم يزوروا «مدينة لندن»!.

للعلم «مدينة لندن» تختلف كليا عن لندن التي أغلب الناس يعرفها، فـ«مدينة لندن» شبه مستقلة عن لندن المعروفة، ومساحتها ميل مربع واحد تقريبا، يعني مساحتها تقريبا 2.9 كلم مربع فقط، وعندما نقول إنها شبه مستقلة، فإننا نعني هذه المعنى حرفيا، فهي لها حكومتها الخاصة أو ما يسمى «إدارة المدينة الخاصة»، التي تسمى «الشركة»، ولها عمدة خاص بها، وأنظمتها مختلفة، وحتى شرطتها خاصة بها، وعمدة لندن الكبرى ما يكون على شيء فيها!، وعدد سكانها نحو 9400 شخص.

أما لماذا نتكلم مدينة لندن الصغرى؟، فهذه المدينة، التي بحجم قرية، هي مركز المال والأعمال في بريطانيا، والعالم إذا شئت!. هذه المنطقة الضئيلة جدا في المساحة تتحكم وبقوة، ولها نفوذ قوي على الاقتصاد العالمي ككل!، ففيها أكثر من 24 ألف شركة أعمال ومؤسسة مالية، وتوظف أكثر من 540 ألف موظف!!.

عندما نقول إنها تتحكم باقتصاد العالم، فإننا لا نبالغ، حيث إن هذا المساحة الضئيلة، مجرد نحو كيلو مترين من الأمتار المربعة، تدفع ضرائب للمملكة المتحدة نحو 76 مليار باوند، يعني نحو 395 مليار ريال، ويمكنك تخيل حجم الأموال التي فيها وتمر عليها إذا كانت هذه فقط الضرائب!.

يوجد فيها أكثر من 500 بنك عالمي، وللعلم كمية الأموال التي يتم التعامل فيها يوميا في هذه القطعة الصغيرة تبلغ نحو 1.85 تريليون دولار، أكرر في اليوم الواحد!.

فهي فعلا مركز المال والأعمال، لكن ما يميزها استقلاليتها التامة، فكل قوانين بريطانيا في جهة، وهذه المدينة الضئيلة الحجم، كبيرة التأثير، قوانينها في جهة أخرى!.

لماذا نكتب الآن عنها، عندما أزور الرياض في كل مرة، وأشاهد مركز الملك عبدالله المالي، تخطر في بالي مدينة لندن الصغرى!.

كتبت سابقا، قبل سنوات، وكنت أتمنى أن يصبح مركز الملك عبدالله «هوب دوليا للمال والأعمال»، ولديه المقومات لذلك.

لذا، أكرر الآن، وأتمنى بشدة، أن يتم تحويل مركز الملك عبدالله المالي إلى ما يشبه مدينة لندن الصغرى!، وأعتقد أنه سيحقق نجاحا باهرا، لعدة عوامل.

فنتمنى جعل مركز الملك عبدالله المالي ذا استقلالية شبه تامة، وله إدارة مختلفة، وله عمدة أو رئيس تنفيذي مستقل، وله قوانينه الخاصة، وحتى له شرطته ومحاكمه وإداراته التنفيذية الخاصة، وتكون قوانينه تتلاءم مع بيئة المال والأعمال الدولية، فكلما كان المركز المالي أكثر استقلالية وشفافية كلما جذب شركات ومؤسسات مالية عالمية أكثر، فدائما المال يبحث عن الملاذ الآمن، وأيضا الشفافية، وطبعا الأرباح.

نتمنى أيضا، في البداية، تعيين رجال مال وأعمال دوليين لهم سمعتهم لإدارة المركز المالي، لأن موضوع المركز المالي الدولي، وإدارته وقوانينه جديد علينا في المملكة، لذلك الاستفادة من خبرات من لهم باع في ذلك مطلوبة، وأيضا هذا عامل مهم لجذب الشركات العالمية.

أما لماذا المركز المالي في السعودية سينجح إذا طبق نموذجا مماثلا لمدينة لندن أو إلى حد ما مانهاتن؟، أعتقد لعدة أسباب، منها أن السعودية أكبر اقتصادات المنطقة، ومستقرة أمنيا، وهي مركز الطاقة في العالم، وقطاع الطاقة بأنواعها واعد جدا فيها، وأيضا البعد الإسلامي للسعودية. كما نعلم أن المصرفية الإسلامية هي الآن من الأكثر توسعا في العالم، حيث نتكلم عن 3 تريليونات دولار كحجم تقريبا، لكن النمو السنوي كبير جدا، نحو 14%سنويا!. أما حجم الطعام الحلال العالمي سنويا، فيبلغ نحو تريليونين!. كل هذا ممكن أن يضمن نجاح المركز المالي في أن يكون مركزا ماليا عالميا وبورصة عالمية لعدة قطاعات.

مختصر القول.. نعم ممكن جعل مركز الملك عبدالله المالي يشبه ماليا نموذج مدينة لندن، وسيدر على المملكة مئات المليارات، وسيوظف عشرات الآلاف، لكن نحتاج أربعة عوامل: استقلالية شبه تامة، وقوانين خاصة لها صبغة دولية، واستقطاب كفاءات دولية من قطاع المال والأعمال لها وزنها، لتدير المركز مبدئيا، والتركيز على القطاعات التي تتميز بها المملكة، ولها أفضلية فيها مثل قطاع الطاقة والمصرفية الإسلامية.