في تونس اختلط الحابل بالنابل، وانقشعت غمامة سوداء عن كثير من وجوه أكثر سوادا، وسقطت الأقنعة عن بعضها، واتضح من همه الأول والأخير مصلحة الدولة، ومن يستفيق كل يوم من أجل تحقيق مصالحه الحزبية.

وانكشفت مواهب عديدة، أهمها قدرة راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة «الإخوانية»، على تمثيل دور المغلوب على أمره، فلا غرابة ما دام ينتهج منهاج جماعةٍ قادرة على التلون والخداع والكذب.

أجمع التونسيون، بعد قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد، فجر الاثنين الماضي، الذي حل البرلمان، وأقال رئيس الحكومة، وعطل الحياة السياسية، إن جاز التعبير، على أمرين: وحدة الدولة، وأن حركة «النهضة»، أو بمعنى أكثر وضوحا جماعة «الإخوان المسلمين»، هما العقدة الكامنة في المنشار.

فمن خلال متابعة ردود أفعال الأحزاب السياسية التونسية، الجميع اتفق على أن قرارات الرئيس سعيّد بمنزلة إنقاذ للدولة، و«محافظة على ما تبقى من روح الثورة - وإن كنت لا اتفق مع مصطلح «الثورة» في القول والعمل - إلا أن ذلك مفهوم شعب دولة بأكمله، وهم أحرار»، ما عدا حزبين سياسيين: حركة النهضة «الإخوانية»، وائتلاف الكرامة، اللذين اعتبرا قرارات الرئيس انقلابا على الشرعية. يقول الرئيس التونسي، في مكاشفة لشعبه، وللعالم في آنٍ واحد، وذلك بعد أن حذر من تنامي الفساد، وحذّر مرارا من استدعاء تدخله: «لقد تم السطو على إرادة الشعب بنصوصٍ قانونية وضعوها على المقاس، لاقتسام السلطة».

لم يُسمّ الرجل من يقصد، لكنه من الواضح أنه يُلمح لحركة النهضة «الإخوانية»، التي اتهمته بالانقلاب على ما سمته «الشرعية»، إلا أن «سعيّد» استدرك واستند على الفصل 80 من الدستور التونسي، الذي «يمنح الحق لرئيس الجمهورية أنه في حالة وجود خطر داهم مُهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس المحكمة الدستورية».

وأكد الرجل أنه أبلغ تلك الأطراف بالإجراءات المستندة على النص الدستوري واضح المعالم. وفي محاولة لإبطال مفعول قرارات الرئيس، خرج رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، الذي يتبوأ في الوقت نفسه منصب رئيس مجلس النواب، للوقوف أمام أسوار المجلس، والتغني بالمظلومية، ومنعه هو ونائبته من دخول المجلس، الذي باشرت فرقة أمنية حمايته ومنع دخوله إليه، وأطلق تصريحات تصف قرارات سعيّد بأنها «انقلاب على الشرعية»، وفي ذلك مناورة سياسية، هدفها الأول والأخير مخاطبة الرأي العام العالمي، وادعاء المظلومية، وذلك ديدن جماعة «الإخوان المسلمين».

الأدهى من ذلك، هو مطالبة «الغنوشي» بوقوف الجيش للتصدي لما وصفه بـ«صيانة الدولة»، لكنه، وبالمعنى الواضح، يناشد ما يُمكن أن يكون عبارةً عن فلول في صفوف الجيش تابعة لجماعته، التي تضع، وذلك اُثبت بالدليل القاطع، الوطن خلف ظهرها، وتعمل عبر مسارات حزبية على تحقيق المصالح العليا للجماعة الإرهابية، التي اعتادت اختطاف الأوطان وإرادة الشعوب.

أعتقد أن الغباء السياسي الذي تعيشه الجماعة، من خلال ذراعها في تونس، بلغ مبلغا هو الأكبر، فمن الاستحالة وقوف الجيش أمام إرادة الشعوب، لكن التفكير السطحي للجماعة واختزال فكرة الشعب بالجماعة يدفعها لتصور أن الجماعة هي الشعب وأن الشعب هو الجماعة، وذلك ما شهدت عليه مصر، حين استولت «الإخوان المسلمين» على السلطة، وكان أقصى حدود ذهنيتها السياسية مقصورا على أتباعها، لا الوطن والدولة الجامعة، كما كان يُردد محمد مرسي «أهلي وعشيرتي»، فإن اختلفت الأوطان، فمفهوم الجماعة واحد. صور الانتهاكات التي جسدتها حركة النهضة، من خلال استفحالها في رفض الصوت الآخر تحت قبة البرلمان التونسي، هي نفسها التي تسعى لتنفيذها في الشارع وبحق الرأي العام.

محاولات فرض الوصاية على مجتمع متحرر كالمجتمع التونسي لم تجد نفعا خلال حكم زين العابدين بن علي، الذي جثم على صدر الدولة والمواطن لأكثر من عقدين من الزمان، وكان الدور الأكبر في استقرار حكمه لأقبية المخابرات. أعتقد أن شعبا ثار يوما ما، وسُميت ثورته حينها بـ«ثورة الياسمين»، انتفض على نظامٍ بوليسي نتيجة صفعة سيدة عاملة في الأمن العام التونسي لبائع الخضار (البوعزيزي)، الذي أحرق نفسه، وتحول لأيقونة مع الوقت، يعي بالمطلق خطورة جماعة الإخوان المسلمين الموغلة في بلاده، ويثق في وقوفها وراء قتل المعارض اليساري شكري بالعيد، ومحمد البراهمي، اللذين أثبتت التحقيقات أن للحركة علاقة بالأسلحة المستخدمة في قتلهما، ولا يُمكنه منح الفرص لثُلة من المارقين، ممن أسهموا في تعطيل نمو الدولة، واستشراء الفساد، وعملوا على تغيير وجه الوطن، ليأخذ شكل الحزب من أجل تحقيق مصالحهم، ضاربين بالكيان التونسي الكبير عرض الحائط. إن الشعب التونسي، الذي استوعب «بن علي» بعد حكم طويل انتهى بكلمة «أنا فهمتكم»، وتجاوز كل الجراح، يُمكنه القفز والتعالي على الجراح، لتحقيق مصالح الوطن العُليا، التي تضمن للإنسان التونسي بعضا من الكرامة، وتلك معادلة لا يُمكن لها أن تتحقق بوجود حزبٍ فاشي يعد ضلعا من أضلاع الدولة، بل ويعمل على تعطيلها.

فلا حل في تونس إلا دحر تنامي تطرف الجماعة، التي تُعاني سقوطها في مصر، وتتعسر في ليبيا، وطرد ممثليها من تركيا. أخيرا.. لم يتبق إلا رأس الأفعى المُختبئ في آخر حصون الجماعة.

إنه كامنٌ في تونس، فلا يُمكن قتل الأفعى دون تهشيم رأسها. أجزم أن الشرفاء في تونس، وهم كُثُر، سيهشمونه، ويتراقصون عليه.

قد أشاركهم نشوة الفرح أو الرقص.. ربما.