الاستثمار في المجال السياحي، له متطلبات مختلفة، يرتبط بعضها بطبيعة المكان ومقوماته الجغرافية أو التاريخية أو الحضارية، في حين يرتبط بعضها بالجهات المسؤولة عن متابعة مستوى الاستثمار ونوعه، ومدى مناسبة طبيعته القائمة في إطار الأنظمة والتطلعات، وذلك يشمل مستوى وحجم ما يتوافر فيه من محفزات وخدمات، تستهدف استقطاب السياح على اختلاف فئاتهم وتباين توجهاتهم، وإذ يُعد هذا النوع من الاستثمار، من المشروعات التنموية المتكاملة الاستدامة، لذا تتطلب تعاون عدد من الجهات المعنية بالسياحة وغيرها، من القطاعات المهتمة بتنشيط الاستثمار في المناطق السياحية، التي تتوفر فيها نقاط جذب سياحي.

تتمتع السعودية بمساحة مترامية الأطراف، في أراض ومكونات طبيعية وساحلية وجبلية وتاريخية وحضارية ودينية؛ قلّما تتوفر في دولة واحدة، ما يجعلها ثرية بمناطق الجذب السياحي بأكملها، والذي يستدعي شحذ الهمم والخطط الاستراتيجية التنموية، لتنشيط السياحة في جميع أرجائها، بما تكتنزه من ثروات سياحية ومقومات جمالية، تُعد رافدًا اقتصاديًا مهمًا، علاوة على ما يحققه الاستثمار في السياحة من تنمية مستدامة شاملة، تحتوي الجانب البيئي والاجتماعي والاقتصادي.

عند زيارة، الكثير من مناطقنا في المملكة التي تتمتع بمقومات سياحية مختلفة ومتميزة، تجد أن تلك المناطق يعوزها الكثير من التنظيم لاستغلال مقدراتها المتاحة، كما أنها تفتقد لكثير من أوجه الاستثمار، التي تناسب المنطقة والتي تجدها في جهات أخرى من العالم وبأقل التكاليف، أو على الأقل بتكاليف مناسبة.

السائح حين يرتاد المناطق السياحية؛ لا يبحث عن فخامة مبالغ فيها بالأثاث والسكنى، وإنما يبحث عن مستوى لائق من السكن المتكامل المناسب لطبيعة المكان، ويهتم بمستوى النظافة والصيانة الجيدة للمرفقات والخدمات، كما يتطلع إلى وجود فعاليات سياحية تناسب المكان، ويبحث عن محتوى متنوع العطاء. ولما كانت الأماكن السياحية تختلف في طبيعتها الجاذبة، فإنها تحتاج لاهتمام مكثف بجميع ما يتعلق بالمكان السياحي تحديدًا، ليكون الاستثمار ناجحًا ومنافسًا ومستدامًا.

عندما يجد السائح -أو المستهلك- نفسه يدفع في ممتلكات ومناشط سياحية، لا تستحق حجم تلك المدفوعات التي يحصلها المستثمر، وتفتقد إلى معظم الخدمات المطلوبة في أمثالها، مع غياب المتابعة والرقابة الرسمية لها، سواء من وزارة السياحة فيما تستهدفه من تطلعات لتنشيط السياحة الداخلية، وبما تحتويه من منشآت ومحفزات مطلوبة، أم من وزارة التجارة في رصدها الأسعار والخدمات المقدمة، مقارنة بالأسعار المطروحة للسائح، أم من وزارة الموارد البشرية فيما يخصها بتنفيذ لوائح التوطين بمستوياته الوظيفية كافة، والتي تُعد المناطق السياحية إحدى مجالاتها المهمة في التوظيف، فإنك تتساءل لماذا هذا الإخفاق في الاستثمار؟ لماذا الجمود والرتابة في العطاء؟ بل ولماذا هذا الاستغلال الصريح لحاجة السائح وبتلك الأسعار؟!.

وكنموذج حي، فإن مدينة الملك عبدالله الاقتصادية شهدت، تحولاً إستراتيجيًا في مستهدفات إنشائها كمنطقة استثمارية تنموية، لتتحول من مدينة اقتصادية لصناعات مختلفة، إلى مدينة تستثمر فيها مكونات المنطقة كمنتجعات سياحية، بعد أن أُنفقت المليارات لإنشاء البنية التحتية فيها، وبذلت الجهود لتجهيزها للاستثمار والتنمية.

وعليه فإنه من المفترض أن تمثل المنطقة مستوى متقدمًا من الاستثمار والتجهيز السياحي لمرتاديها، في إطار إدارة ذكية تستوعب أهمية المنطقة، وبما تحتويه من أهمية سياحية تخدم الاستثمار السياحي التنموي، علاوة على استشعارها لأهمية تنشيط السياحة فيها طوال العام، بحكم موقعها المتميز في «رابغ» على الساحل الغربي، وبما تتمتع به من إطلالة ساحلية طويلة، تمكنها من تحويل المنطقة لمنتجع سياحي منافس لما نجده في كثير من الدول الأخرى.

تتمتع مدينة الملك عبدالله الاقتصادية بمساحة كبيرة تحت حيازتها التابعة لها؛ ولكن يغلب عليها -للأسف- المساحات الصحراوية القاحلة، من النباتات والمزروعات التي تجمل المنطقة وتلطف الجو، والتي تُعد مطلبًا ضروريًا لأي منتجع سياحي، أما منتجعاتها السياحية ومنشآتها، فتتقلص ما بين فندقين ذوي إطلالة مميزة على الساحل، ومجموعة من الفلل السياحية التي تستأثر بمساحة كبيرة من المنطقة، ومجموعة من العمائر السكنية التي بيعت كعقارات للاستثمار السياحي في المنطقة، والتي تفتقد إلى أي نوع من المقومات التي تستقطب السائح!.

ولعل أهم ما يميز تلك المنتجعات -الفلل والفنادق- فخامتها وارتفاع سعرها المبالغ فيه جدًا، رغم افتقادها تمامًا للخدمات المتوقعة المصاحبة، والمحفزات المطلوبة في المناطق السياحية، ولكن مع قلة العرض وكثرة الطلب على منتجعات سياحية محلية، فإنك تجدها مكتظة -على الأقل- في المواسم والأعياد، رغم فُحش أسعارها وضعف خدماتها وافتقادها لجميع متطلبات استثمار المكان السياحي بما يناسبه! أما العمائر، فإنها -وللأسف- نموذج متكرر لمخرجات المطورين العقاريين لمشاريع الإسكان في المدن، والتي أثبتت ضعف الطلب عليها بالإحصاءات، فكيف لها أن تنجح في منطقة يُراد لها أن تكون سياحية!.

بحجم المسؤولية الوطنية، وبمستوى الاهتمام الذي توليه القيادة لتنشيط الاستثمار في السياحة وغيرها من البرامج، كجزء من مرحلة تنموية استثنائية تعيشها المملكة، نتمنى من إدارة مدينة الملك عبدالله الاقتصادية العليا، مراجعة هيكل كوادرها البشرية القائمة على إدارة المشروع، وما يتعلق به من تكاليف ومسؤوليات ومتطلبات، تتصل بتطوير الاستثمار وتحسين إدارته بما يناسب المنطقة، وبما تتمتع به من إمكانات متميزة، كما أدعو وزارة السياحة للتدخل في جميع المناطق السياحية، لمتابعة آلية ومستوى الاستثمار فيها بجميع متطلباته، علاوة على تدخلها في تنشيط الاستثمار السياحي في جميع المناطق التي تنتظر المستثمر ويتطلع لها المواطن. وإذ تقف وزارتا الموارد البشرية والصناعة والتجارة، كداعم أساس ومنظم، لآلية التوظيف والتوطين والأسعار المتاحة في تلك المناطق؛ فإننا نأمل تفعيل التنمية السياحية المستهدفة، وتنشيط الاستثمار السياحي، وبما نستهدفه من تنمية مستدامة بيئيًا واجتماعيًا واقتصاديًا تبلور رؤية 2030.