من القناعات المطمورة في النفوس أن الأقوى هو من يملك لسانًا حادًا، أو تصرفًا رادعًا عندما تتلاطم أمامه أمواج مشكلات معقدة في المواقف الشخصية للأفراد أو السياسات للدول، الحقيقة أن التعايش مع الحياة يخضع لقوانين متغيرة، ومن البداهة أن تلوح في أفقنا ذرات نزاع توشك أن تقع -إن لم تكن قد وقعت من قبل- ولكن من الحكمة؛ أن يكون التغليب قبل التأليب والأخير هو التحريض الواسع للإجماع على عداوة إنسان أو كيان واستنهاض الخمود للصمود.

وعادةً ما يجد التأليب متنفسًا له في الصدور الضيقة التي لا تروضُ على التغليب وهو الترجيح للمقصد الصحيح على الظن القبيح الذي لا يوسّع الجروح ولا يستدعي القروح فهو سمة أخلاقية تنسجم مع سمو نفوس المؤمنين الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا.

يندر أن تجد التغليب يسبق التأليب في الواقع الحياتي بل على النقيض منه يتم التعامل مع كل موقف بالقانون الفيزيائي المشهور «لكل فعل ردة فعل» ومن المؤسف أن هذا قد يكون مبررًا للتوسع في الانتقام بالكلام، أو الأفعال التي من الممكن أن تتجاوز حد المألوف أو على سند المقولة الشعبية «البادي أظلم».

الدفاع عن النفس، والمال، والعرض ونحوه واجب شرعي، وضرورة من الضروريات الخمس وليس القصد من حديثي هو الاستسلام، أو الخنوع لكل جبار عنيد، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم أقر الدفاع عن المسلمين بالشِعر كما قال لحسان رضي الله عنه «أهجُّ المشركين وروح القدس معك».

والمتأمل يرى أنه لم يتوسع في التأليب على حساب التغليب، ولم يأمر حسان بأن يقابل ذلك بالسيف والقتال بل أوجد معادلة تزن المقاييس كل موقف بحسب ما يجب فيه، فكان للتغليب بالشعر سبق على التأليب بالجيش.

وردّة الفعل الفيزيائية بالمعنى الصحيح لا تتماهى مع التعيين التبادلي بالشكل السليم إذا كان مؤدي سيرها بالاتجاه العكسي يرمي إلى إذكاءٍ للتأليب المشاعري غير المقبول أحيانًا.

إن تغليب المصالح السياسية أو المحبة الأخوية أو داعي تقوية الأواصر الأسرية قبل تأليب المشاعر ضد كل المواقف أمر مهم وإغفاله يعني أن تُمنى بالمزيد من الخسارات، أو فرض واقع أليم من الشتات؛ لأن التعامل مع المعطيات جزء مهم لتحقيق أسمى الغايات، ولقاعدة التغليب قبل التأليب تشابه معنوي مع القاعدة الفقهية «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وبالمعنى التقليدي: لا تبحث عن شيء لك فيه مصلحة وأنت تعرف أنه سيفتح باب سوء عليك، إذ أن انصرافك عن المصلحة يكون من الأجدى نفعًا لك لأجل الغاية؛ ألا تضار بمفسدة أعظم.

عمر بن الخطاب يسُلّ سيفه في وجه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنهما ويستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله في موقف عابر وقع من حاطب عندما أرسل لقريش ورقة مع امرأة يخبرهم بما أجمع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، كانت تلك الفعلة لاتقاء فتنتهم على ما بين أظهرهم من أهل حاطب وذويه.

فنهى الرسول ﷺ عمر: وقال «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». هنا إعمال التغليب على التأليب فتأليب مشاعر عمر أمر طبيعي تجاه هذا الموقف إلا أنه قابله تغليب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمواقف السابقة لحاطب فكان ميزان رجحت كفته نحو سمو الأخلاق، ثمّن فيها المواقف الرفيعة على الهفوات الرخيصة، ولم يفسر ذلك الشك لغير صالح المتهم وأطفأ غيض المؤمنين وألّف بين قلوبهم بحسن ظنه صلى الله عليه وسلم.

أستعيد الذكريات وأنا في الصف الثالث الابتدائي وكان أستاذ الرياضيات يطلب منا مراجعة جدول الضرب ليسألنا عنه في الحصة المقبلة من اليوم التالي، سألني اليوم التالي ولم أكن مستحضرًا شيئًا مما طُلب مني فهمَّ بتأديبي بالفلكة وهي أسلوب تربوي يعرفه جيلي ومن سبقني وأمسك بتلابيبي وقال: هذه المرة لك لأنني رأيتك أمس في المصلى في الصف الأول.. فدفع الله بذلك التغليب عني شيئًا كثيرًا.

في تعاملاتنا اليومية قد تستفز مشاعرنا، وتقض مضاجعنا وتجفل أعيننا لمجرد توافه أفعال أو أقوال لم يكن ذلك لو أننا طبقنا جزءًا يسيرًا من قاعدة التغليب على التأليب فلربما أن من أساء إلينا لا يقصد إحداث غور بداخلنا، أو ربما أننا لو التمسنا لهم العذر سندًا على القاعدة لكان أنفع في أوقاتنا، وأعمارنا، ونقائنا، وبقائنا ولانتهى بنا ذلك النضج إلى زهور تتفتح أوراقها في كل فصل، ويفوح عبقها مهما حصل.