يعرف الكثيرون عن منطقة عسير؛ جمال الطبيعة وبرودة الجو طوال العام مع هطول مستمر للأمطار يزداد صيفًا، وذلك بسبب موقعها المرتفع على جبال السروات، وبسبب موقعها في العروض المدارية الممطرة، والذي جعلها حالة استثنائية في ظروفها الطبيعية والمناخية، وسط بيئة يغلب عليها الطبيعة الصحراوية والمناخ القاري الجاف الحار صيفًا والبارد شتاء؛ وذلك في حد ذاته نعمة من نعم الله التي حباها الله لوطننا الغالي، الذي تتنوع طبيعته ويتنوع مناخه ما بين منطقة وأخرى؛ ليكون جامعًا لمختلف الظروف المناخية والطبيعية، التي تميزه عن وسطه الإقليمي، بحكم اتساع مساحة المملكة، وتمتعها بعدد من الواجهات البحرية والبرية في محيطها الجغرافي، الذي يعزز من ثقلها ومكانتها الإستراتيجية.

الذي لا يعرفه الكثيرون عن منطقة عسير، حجم ما تحتويه من مقدرات التراث الوطني الذي يُعد مفخرة لأهل الجنوب وللوطن، بما تحتويه هذه المنطقة من ثروات طبيعية وبشرية وتاريخية، فهي غنية بتراثها المتميز، ثرية بمعالمها التاريخية التي تعود لآلاف السنين، مبهرة بطبيعتها الجبلية المتفاوتة الارتفاع، والتي تكسوها الخضرة في كل مكان؛ والذي أسهم في تشكيل ذلك الحس الجمالي والتذوق المبدع لدى الإنسان الجنوبي؛ بما تفرزه قريحته من إبداعات فنية مختلفة، ومشاركات أدبية وعلمية متميزة، في كل مجال يخوضه وفي كل ميدان يتقلد مكانًا فيه، اكتسب من الطبيعة صفاءها ونقاءها ووضوحها، فأعطى بيئته ومنطقته كما أعطته، بسخاء وكرم وتنافس على البذل، فلم يدخر جهدًا في محاولة الحفاظ على موروثها وتاريخها، بما يفوق الجهود المألوفة التي يمكن أن تجدها في أي مكان.

بفضل من الله ثم برعاية كريمة وتيسير من إمارة منطقة عسير، وتعاون من جامعة الملك خالد واللجنة الثقافية في محافظة أحد رفيدة في المنطقة، حظيت ومجموعة من أعضاء الجمعية الجغرافية لدول مجلس التعاون، بزيارة منظمة للمنطقة، تمكنا خلالها من الاطلاع على بعض من كنوز منطقة عسير التاريخية والتراثية والطبيعة، في عدد من محافظات المنطقة ومراكزها البلدية الممتدة والمتناثرة على جبال السروات كحبات اللؤلؤ في عقد الطبيعة الغناء.

وكما أبهرتنا الطبيعة بجمالها وجوها العليل وأمطارها المستمرة، فإننا أُبهرنا بحجم الموروث الثقافي والتاريخي في المنطقة، بمختلف محافظاتها، تاريخ وتراث يتشرف به كل مواطن ينتمي إلى هذا الوطن، عدد غير قليل من المباني التراثية والمنشآت والآثار القائمة في القرى المتجاورة والمتداخلة فيما بينها، وما بين أطراف المراكز الحضرية، في نموذج عمراني فريد من نوعه، متميز في بنيته التراثية، جامع لمختلف متطلبات الحياة الاجتماعية والأمنية.

هناك ثقافة عامة ونظام اجتماعي قَبَلي، يحمل مفهومًا مشتركًا لطبيعة الحياة ولأسلوب المعيشة السائد حتى عهد قريب، تراث معماري واجتماعي وأمني، يستحق كل منها الوقوف عنده لتوثيقه محليا ووطنيًا، معالم تستحق أن تقوم حولها دراسات مستفيضة وأبحاث علمية توجه، لرصد جميع الموروث الحضاري للمنطقة.

لعل من أهم الملاحظات التي تُبهر الزائر للمنطقة هو ذلك الحرص الشديد والتنافس الشريف والمخلص، ما بين أبناء المنطقة ورجالاتها في المحافظة على موروثها الثقافي والحضاري بجميع مكوناته ومناطقه، جهود تبذل وأموال تنفق بسخاء ورضا، في سبيل الإبقاء على هذا التراث قائمًا وشاهدًا على تاريخ حضاري يعتز به سكان المنطقة.

كل محافظة أو مركز بلدي، تزينه شواهد تراثية وتاريخية، تستحق الكتابة عنها وحدها، قلعة «جُرش» من المعالم التاريخية النادرة في محافظة أحد رفيدة والشاهدة على اندثار حضارة إنسانية عريقة في المنطقة؛ قرية «رجال الأثرية» في جبال ألمع، شامخة في عمرانها كشموخ أهلها، قرية رجال الأثرية؛ نموذج يعكس عظمة الإنسان عندما يسخر طاقاته للمحافظة على بيئته وتراثه الحضاري؛ «قصر ومتحف الشيخ محمد المقر» في النماص، يُعد معلما تراثيا حضاريا فريدا من نوعه، يشهد بعظمة الفكر الإنساني، وعمق فلسفته في البناء والتشييد، وقوة جلده وتفانيه في سبيل المحافظة على موروث تاريخي لحضارات بشرية بادت، إذ تعود مخطوطاته ومقتنياته لآلاف السنين؛ قصر علي آل عاصي، يؤكد نموذج الإنسان الجنوبي الفريد، في اهتمامه بالمحافظة على التراث المحلي للمنطقة؛ محافظة تنومه، يمثلها «العم دحدوح» في كرمه وحفاوته بضيوف المحافظة، ومركز بللحمر حيث «قرية عضوان السياحية»، التي تمثل نموذجًا تراثيًّا من البناء المستجد، في محاكاة لصورته البائدة.

هناك نهضة عمرانية كبيرة تشهدها المنطقة منذ عقود، تجدها في جميع محافظاتها ومراكزها؛ ولكن هناك العديد من التساؤلات التي تطرح نفسها، أمام جميع ذلك الإرث الثقافي والتاريخي والحضاري؛ هل هناك جهود تذكر من وزارة الثقافة والتراث الوطني، في المحافظة والتوثيق لتلك الثروة الثقافية والتراث الوطني المتميز؟ هل هناك مساعي لتدوين البعض منها على الأقل ضمن هيئة التراث العالمي «اليونسكو»؟ وما هي جهود وزارة السياحة في تطوير متطلبات السياحة في المنطقة؟ وما هي مشروعات وزارة النقل المستقبلية في المنطقة، لتيسير الربط فيما بينها وما بين المناطق الأخرى، بوسائل النقل المتطورة السريعة كالسكك الحديدية والمترو وغيرها؟ وهل هناك توجيه للبحوث العلمية والأكاديمية نحو دراسة جغرافية وتاريخ المنطقة بتفاصيله؟ وهل هناك كليات أو معاهد سياحية أو مهنية في المنطقة، تهتم بإعداد مخرجات مؤهلة، تستثمر في تنشيط السياحة وتطوير ممكناتها، بما يحقق التنمية المستدامة للمنطقة وسكانها؟

إنشاء هيئة تطوير السودة ورجال ألمع، مبادرة وطنية مهمة، تهدف إلى الارتقاء بجميع ما تحتاجه تلك المواقع من إمكانات واحتياجات عصرية، لتخدم السياحة والتنمية في المنطقة، وذلك لا يمنع من مشاركة القطاع الخاص كذلك، وبالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية في المنطقة، في توسيع دائرة المشروعات والمبادرات للاستثمار في المنطقة، بهدف تحقيق التنمية المستدامة المتكاملة.