كنت في السجن، منقطعاً عن كل اتصال مباشر بالخارج. وتشوقي إلى كل ما هو ممنوع عني – أعطى للأشياء قيمة جديدة. هكذا مثلاً، بدأت أحب القمر الذي كنت أنعته دائماً بالغباء!
أستطيع الآن أن أسجل أن محبتي للقمر ولدت في يوم واضح في الذاكرة.. وساعة واضحة – عندما فتح السجان باب زنزانتي.. كان أول ما رأيت.. القمر يرسل لي بسمات مشاركة في الوحدة أكثر من بسمات الغباء. كان كمن يزف إلي بشرى بقاء الجمال جميلاً، لم يحدث شيء نحن في انتظارك ! هكذا قالت لي حروفه الفضية ! من السهل على القارئ أن يتصور شاعراً في زنزانة – مساحتها متران، مظلمة ومعفنة – يفاجئه القمر بزيارة، يحمل على وجهه هدية هي بسمة غامرة، فشعرت لأول مرة، كيف يحرك قرص المرايا والماس ذكرى منسية في القلب، ورضى عامراً بالدفء كشمس الربيع. وأحياناً، تتجه خواطري ناحية أخرى: أين أنا وأين سجاني من «الآخرين» الذين يسافرون إلى القمر، بينما لا هم لسجاني ولا طموح إلا إحكام قفل زنزانتي عليَّ!!
هذا السؤال أيضاً يغضب الكلمة، ويزودها بحرارة الاندفاع، وتشوق الارتفاع !........
أردت في إحدى قصائدي أن أتحرى السنا في الدمع، ولكني لم أعرف بالضبط كيف يكون ذلك. بل استسلمت للاعتقاد القائل بإمكانية التجربة..
ولكن، عندما أمرني السجان بحمل المعول والحفر في الأرض، وقمت بذلك صرت أتنفس بصعوبة، وأدميت راحتي التي لم تكن معتادة – لسوء حظي ولأسفي – إلا على الورق والقلم وأكف الأصدقاء، وشعر الحبيبة ! وعندما انحنيت رأيت كيف يمتزج كياني كله بجسد الأرض المستسلمة. وعندما رأيت حبات العرق الفضية تتدحرج عن جبيني وتمد خيطاً طاهراً يربطه بالتراب، شعرت بمجد الفلاح.. وقداسة غضبه، برؤيته حبات عرقه، وقطرات دمه، تجري في جيوب المستغلين، وشعرت عندها بسر الحب الأسطوري بين الفلاح والأرض.. ولماذا تمدد فلاحون عرب أمام التراكتورات التي جاءت لتفرق بين المحبين هنا.. وجدتها.
وجدت الضوء في العرق، الذي هو دمع الجلد !
إذا كان مسموحاً لي أن أمضي في الحديث عن نفسي في هذه المناسبة المعطاة لي بلا كلفة.. فإني أعترف – مع إحساس بالخجل وبالذنب – بأني لم أر شروق الشمس ولكني في السجن رأيت هذه العروس الطالعة من بحيرة الضوء والسحاب مع كامل مراسيم الجمال والفتنة، التي تعري الناظر إليها من كل تحفظ واكتفاء في الحب. أسأل نفسي بعتاب: كيف كنت بعيداً عن هذه الجميلة التي شربت الشاي مع ماياكوفسكي ؟ولكني لم أقف أمام عرشها الذي أبايعه الولاء والطاعة، لأدعوها لتناول الشاي.. بل لأشكو لها.. لأشهدها على ما يفعلون بي أمامها وبدون حياء منها ! يداي في القيد.. وقلبي يحترق !
كان ذلك عندما نقلوني مكبلاً بالحديد من سجن إلى سجن في ساعة مبكرة.
........
بعد ذلك يُسأل سؤال: هل معنى ما أقوله أن السجن مدرسة ؟
- لنا ؟ لا.
- إذن، كيف شعرت بأشياء جديدة وجميلة بفضل السجن ؟
الجواب: إن هذا بالأساس، بفضل عدم الخنوع للحزن والألم، واستخلاص ما يُمكن استخلاصه منهما، ما دام السجن حقيقة واقعة.. وضريبة لا بد من دفعها للحكام، الذين يكنون لنا البغضاء والعداء، لأنهم أعداء أنفسهم وأعداء شعبهم.
والآن، بعد إطلاق سراحي يستطيع هؤلاء أن يسائلوا أنفسهم: هل يكف درويش عن «ارتكاب الجرائم» ما دام قد حاز على «شهادة إنهاء» من المدرسة ؟ وهل يتجرأ على العودة مرة أخرى ؟
أجيبهم كما أجاب برتولت بريخت على لسان أحد السجناء، في سجن فاشستي، كتب السجين اسم لينين على جدار الزنزانة.. وعندما عجز السجّان عن محو الاسم بشتى الوسائل.. «نصحه» السجين: «اهدم جدار السجن» !
وآخذ من النبي محمد جوابه الخالد: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري...
وأكثر من ذلك، إن محاولة حبس كلمة الحب، لا تقل غباء عن محاولة أحد الطغاة «معاقبة» البحر بجلده بالسياط لأنه رفض الانصياع إلى رغبة الطاغي. ولذلك، سأتابع المسير، فإن عدو الكلمة واحد في كل مكان وزمان.. يبدل ملابسه وعنوانه من فترة إلى أخرى، ولكنه هو.. هو !وللقراء أقول: سأستمر في دفع مهر الكلمة الغالي، سوية مع رفاق الدرب.. العرب واليهود.
1965*
*شاعر وكاتب فلسطيني" 1941 - 2008"