يخطئ من يحاول هنا وهناك، أن يتحرر من كل أدبيات السابقين وتراثهم، ورميها بمختلف التهم المعلبة، كالتخلف عن ركب الحياة، وغير ذلك، أو ادعاء الرغبة في التقدم ومواكبة للحياة، وأنه لا سلطة إلا للواقع، مهما كان هذا الواقع؛ والحق أنها ثورات متعمدة على المفاهيم المختلفة، والدينية على رأسها، واستبدالها بمفاهيم «سفسطائية»، كالطبيعة محل الخالق، والشعب محل الله، والدنيا محل الآخرة، والمعاصرين محل الأنبياء، والمعقولات محل المنقولات، وغير ذلك من كل ما فيه تدمير للثوابت، عاجلا أو آجلا.

عندما يقرر من نور الله، سبحانه وتعالى، بصائرهم أن من حق الإنسان أن يتبنى ويؤمن بما يحب، ويرفض ويكفر بما لا يتماشى مع هواه؛ فهذا ليس معناه السماح بأن يفرض أحد على أحد إيمانا أو دينا منكرا عند عامة الخلق، من جنس ما يسمح بالطعن فيما يسمونه، على سبيل المثال، «الذات الإلهية»، لأنها في زعمهم، غير متصورة؛ والحقيقة أنها كلها تمريرات وصرخات لغطاءات وحالات، مبدؤها «أسبقية الواقع على الفكر»، وللأسف أن النجاة منها صعبة جدا، على بسطاء الناس..

هذا المبدأ المتناقض «أسبقية الواقع على الفكر»، أدخله هواته ومحترفوه حتى في مسائل الفقه الإسلامي، متناسين أن تغييرات الثابت من الأحكام، دون مرجحات أو مقاصد أو علل أو أسرار أو أحكام شرعية معتبرة؛ خطأ جسيم وكبير، لأن الشرع هو الذي يُحسِّن ويُقبِّح، وليس الهوى، والشرع هو الذي يحكمُ على أفعال المكلَّفين، وليس الناس، وعن هذا الموضوع الدقيق، يقول الإمام الشاطبي، رحمه الله تعالى، في الجزء الرابع من كتاب «الموافقات»: «الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم، لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين، فيمكن تقليده فيه، لأنه معظم الشريعة، فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات ـويضيف- الشريعةَ مبنيَّةٌ على اعتبارِ المصالحِ، وأن المصالحَ إنما اعتُبِرت من حيث وضَعَها الشارعُ كذلك، لا من حيث إدراكُ المُكلَّف؛ إذ المصالحُ تَختَلِف عند ذلك بالنسبِ والإضافاتِ..».

من المعلوم لكل صاحب عقل أن الشريعة جاءت فيما جاءت به، من أجل إخراج الناس من دواعي شهواتِهم، وأن من يريد أن يرجح أمرا على أمر، عليه أن يأتي بمرجحات شرعية، وإلا كان ما فعله أو يفعله منكرا، وفي نفس الوقت معلوم أن العلاقة مع الواقعِ عَلاقة تفاعلية، أجملها قول الحق سبحانه وتعالى، في سورة الرعد: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾.

أختم بأن الثورات التي قدمت ذكرها، غيبت وتجاوزت مصطلحات شرعية معروفة، كـ«حلال» و«حرام» مثلا، لتحل محلها «الحرية»، و«المساواة»؛ حتى صرنا نسمع أن الصلاة «صلة» مع الرب، بعد أن كان يقال عنها، إنها «واجب»، لا يستقيم دين الإنسان إلا بأدائها، والخوف كل الخوف أن يكون ذلك ضمن حملة مقصودة لتغييب الوعي الشرعي العام، يقف خلفها المضطربون والمتناقضون وأصحاب الأهداف المشبوهة، وهو ما يحتم على أولي الفهم القيام بواجب ربط الناس بتراثهم، والأخذ بيدهم في كل ما من شأنه منعهم من الذوبان والانسحاق خلف المُجمع على خطئه، دون خلط للعقول، أو تشتتيها.