في إحدى زوايا المدينة القديمة التقيت بمسن 80 عامًا رشيق، قادر على التسلق والركض وكأنه شاب. عرفته بنفسي فقال أعرف فلان الفلاني من قبيلتك واحتفظ بشيء من ذكراه، فقد صدمته سيارة أمامي بحي الشميسي بالرياض، ووجدت بعده فردة حذاء واحدة وأحتفظ بها منذ أكثر من 50 عامًا. أخذني لمكانها وفي الطريق أعاد لي تاريخا لم أسمع به من قبل. سرد قصص القبائل وتنقلاتها وتجاراتها الصيفية والشتوية، وكيف كانت الدولة العباسية تنقب عن الحديد في إحدى القرى القريبة منا و...... و...... من المعلومات التي لم أقبل منها واحدة، فقط لأنها لم تأتني عن طريق القنوات الأجنبية التي أدفع لها اشتراكًا شهريًّا، لتخبرني عن آثار منطقتي.

ووصلنا إلى بيت متهالك، وفي مدخله مجموعة من العمالة وأحد رؤساء الجمعيات الخيرية بالمنطقة وهم يخططون لترميم البيت، وتسلقنا الدرج وبمجرد فتح السطح تذكرت مشهدا من فيلم (إنديانا جونز) بعد أن ولج البطل مغارة مليئة بالآثار.

في هذا السطح المتهالك و«الهنقر» الذي لا يحمي من ماء ولا هواء، وجدت آثارًا بعضها يقال إنها ترجع لفترة ما قبل الإسلام، وجدت جميع الأعداد لمجلات كانت تصدر قبل 45 عامًا، مراضع مخصصة للأطفال الخدج لحياة ما قبل البترول، كتبا مخطوطة، أسلحة وسيوفا ودروعًا وكأنني أشاهد أفلامًا عن الحملات الصليبية، كل شيء يخطر ببال المهتم بالتراث وما لا يخطر بباله موجود.

وبدأ هذا المسن (العم سعيد فرج)، بالحديث عن الحذاء الذي انتزعه من مكان الحادث ومم صنع، وكيف كانت صناعة الأحذية والجلديات بما فيها الشنط النسائية، هي إنتاج محلي للمنطقة والمناطق المجاورة، وقد تصدر إلى دول أخرى «عكس الآن»، المهم تركيزه كان على وفائه لصديقه، وأنا تركيزي على كل شيء بالمكان. أخبرته أن لي علاقة بالصحافة وأنني سأخرج ما لديه للعلن، وكنت أحسب أنني «جايب رأس غليص»، فأخرج لي نسخة من صحيفة محلية بتاريخ 19/‏‏01/‏‏1397 قبل 46 عامًا، ومجلة أخرى تتحدث عن إنشائه بجهود ذاتية وبدائية لمتحف (الفيصل) تخليدًا لسيرة الملك فيصل - رحمه الله - وإذا بالصحف والمجلات تتحدث عنه من ذلك الوقت، بل أطلعني على تقارير تلفزيونية في وقتنا الحاضر عرضت على التلفزيون السعودي وMBC وغيرهما.

ورغم ذلك ما زال الرجل يعيش حالة يرثى لها ، رغم قدرته على بيع قطعة أثرية واحدة بمئات الآلاف. رجل أنفق المكافأة التي حصل عليها بعد مشاركته مع الفريق الذي ذهب لفرنسا لاستعادة تراثنا من هناك على جلب قطع أخرى من التراث، وكأنه خلق للتراث، أكله وشربه وأوكسجينه التراث، ومن ثم نفسه وأسرته. فأقل ما يمكن أن يقدم له من وزارة الثقافة التي نفضت الغبار عن تراثنا بهيئة التراث، حصر ما لديه وتأريخه، وعرض ما يمكن عرضه للبيع بأسعار يضعها المختصون بالتراث من الداخل والخارج، وإنشاء متحف يحمل علامة «ماركة» مسجلة باسم الرجل الذي ترمم منزله المتهالك جمعية خيرية، وورثته، لهم ريع مخصص مما سيجني، عمل تخليدي أكثر من كونه ربحيا. عمل يليق بمن أفنى حياته كلها ولم يفرط في قطعة تراث واحدة، فلا أعتقد أننا سننهض بالتراث دون الاهتمام بمن هو شغوف بالتراث، ولم أقابل شغوفًا أكثر من «العم سعيد» (رجل التراث يا هيئة التراث).