«إذا لم يكن الشخص ليبراليًا في العشرينات من عمره فهو بلا قلب، وإذا لم يصبح محافظًا في الأربعينات فهو بلا عقل» هذه المقولة الشهيرة، تنسب لتشرشل بالخطأ ولكن الأصح أن أول من ذكر شيئًا مقاربًا للفكرة هو جون ادامز حتى قبل الفرنسي فرانسوا غيزو. وتعني العبارة أن شعارات اليسار واللبراليين تكون جذابة وبراقة خصوصًا في وقت المراهقة والشباب والاندفاع خصوصًا أنها تدعو في ظاهرها للعدالة ومحاربة الظلم والمساواة، ولكن عندما يكتسب الإنسان الخبرة وتدرسه الحياة ويكبر فإنه يعرف أن الشعارات لا تصنع الحياة الحقيقية، والواقع بعيد كل البعد عن أفكار اليسار الطوباوية.

ظهور المد اليساري أو الاشتراكي أو حتى الشيوعية، هي عبارة عن موجات ترتفع في فترات ومن ثم تضمحل، ولا يبقى لها أثر يذكر إلا ذكريات تاريخية، لأنها غير قابلة عمليًا لإدارة الحكومات والدول، لأن الأمم لا تبنى وتدار بالشعارات. لكن الحركات اليسارية لها القدرة على جذب وحشد الأتباع خصوصًا الشباب لأنها تلامس العواطف، لكن مع مرور الزمن غالبية الأتباع لا يكونون ذوي انتماء طويل الأمد لأنهم مع الوقت ينضجون ويعرفون الحياة الواقعية. هناك البعض من الأتباع يبقون متعلقين بالفكر نفسه، وهم عادة ثلاث فئات: بعض الإعلاميين والصحفيين وأيضًا بعض الأكاديميين وبعض السياسيين، أما الأكاديميون فمعروف إلى حد ما أنهم بيئة معزولة في الحرم الجامعي، فلا يرون الحياة الحقيقية ومصاعبها إلا بمنظار وردي، لذلك وصفوا بـ«البرج العاجي» وهو أول وصم لأكاديمي الجامعات. أما بعض الصحفيين والإعلاميين خصوصًا عندما تكون الصحيفة أو القناة ذات توجهات يسارية، فتكون البيئة المحيطة بالصحفي أو الإعلامي كلها تردد الأفكار نفسها، فيصبح ما يشبه الفقاعة التي تعزله عن العالم واقعيًا، فلا ينضج مهما كبر عمره! أما السياسيون فمن أجل جذب الناخبين خصوصًا الشباب منهم!.

الآن نشهد موجة صعود اليسار وأفكارهم، وساعدهم في ذلك عدة عوامل منها اختراق اليسار للإعلام والمنصات الإعلامية، وأيضًا بعض الأغنياء من مناصري اليسار أصبحوا يكونون معاهد ومؤسسات فكرية لاستقطاب اليساريين، وأيضا جعل عملهم أكثر مؤسساتية من أجل الاستدامة، وأيضًا هناك التيارات المعادية لأمريكا، وجدت فائدة وتلاقيًا في دعم اليسار الأمريكي، وخصوصًا الاشتراكيين جدًا منهم لتضعيف القوة الأمريكية. فاليساريون الرادكاليون منهم يعتقدون أن أمريكا إمبريالية عنصرية لذلك يتعاطفون مع أعداء أمريكا سواء كوبا وإيران إلخ، ويعادون أصدقاء أمريكا، ولديهم شعارات غير قابلة للتطبيق في الحياة العملية، مثل شعار إنهاء الحروب للأبد، وهو تفكير طفولي لا يراعي تاريخ العالم الطويل للدول ولا حساسياتها وتشابك مصالحها ونزاعاتها، لكن هذا الشعار يوافق هوى القوى الأخرى حول العالم، لأنه يعني العزلة الأمريكية والانكفاء، ومن ثم ترك الساحة للقوى الأخرى في العالم لسد الفراغ.

الإعلام خصوصًا اليساري حاول تلميع الاشتراكيين وإعطاءهم صفات بعيدة كل البعد عن جوهرهم، فعلى سبيل المثال فإن مصطلح (التقدميين الديمقراطيين) استخدم بدل مصطلح الاشتراكيين اليساريين، فهؤلاء مجرد حملة أفكار اشتراكية لا تناسب المجتمع الأمريكي بتاتًا.

عملت بعض التيارات الأخرى على استغلال الوضع مثل اللوبي الإيراني في أمريكا، والاستفادة من السذاجة اليسارية وبدأوا بوضع أجندتهم لها من خلال اختراق مراكز الفكر والإعلام والجامعات، وأيضًا بعض السياسيين اليساريين، دون مبالغة بعض مراكز الفكر في أمريكا أصبحت شبه تدار بأفكار الحرس الثوري الإيراني، واستقطبوا وجوهًا شابة غير ناضجة من الرجال والنساء من الأمريكيين حتى من غير أصول إيرانية، لكي تتبنى الأفكار الإيرانية وصدرتهم للمشهد الإعلامي من أجل الشكل، أما المضمون فهم يتم تلقينهم حرفيًا، نحن نتابع بعضهم بكل حيادية فهم دمى أكثر من أنهم باحثون، بعضهم ما يعرف يدخل نقاشًا واحدًا منطقيًا بس يؤدون دورهم، خصوصًا أنها وجه محلي مألوف للمواطن المحلي الأمريكي العادي يتحدث لغته ولهجته.

هذا السرد لليسار يأخذنا إلى العلاقة المتشابكة بين اليسار وبعض الدول الخليجية، وتدخل اليسار بقوة في الأجندة الخليجية.

في الفترة الأخيرة في واشنطن كانت هناك معارك علنية وخفية بين دولتين خليجيتين، يقوده سفراء صار لهم صيت حاليًا في واشنطن، كونوا شبكة علاقات واسعة مع سياسيي واشنطن ورجال المال والأعمال ومع اللوبيات، يحاولون حثيثًا خدمة مصالح دولهم التي تتصادم مع أجندة اليسار واللوبي الإيراني والإخوان.

الكثيرون في واشنطن يتابعون باهتمام هذه المعارك، والتي القليل منها ظهر للعلن، لكن الكثير منها كان مخفيًا ويتناقل تفاصيله رجال واشنطن ومستشاروها في مجالسهم وقروباتهم الخاصة، واستخدمت في هذه المعارك جميع التكتيكات والخبرات.

في المحصلة الجميع يسعى للتأثير بطريقة أو أخرى في قرارات واشنطن والتي بالمحصلة ستؤثر في مصالح وأحوال المنطقة، الكثيرون بدأوا يحسون أن الإدارة الحالية ضعيفة، رغم كثرة الموارد ودعم الإعلام واليسار، لذلك يحاول الجميع استخدام هذا الضعف للتأثير في الإدارة.

المشكلة حاليًا ليست أن الخليجيين ليس لديهم إستراتيجية موسعة شاملة مشتركة للتأثير في القوى الدولية رغم إمكانياتهم، بل المشكلة أنه يضيع جهدًا كبيرًا لبعض الخليجيين لمناكفة بعضهم البعض مما يقلل التأثير. عندما تبذل مجهودًا كبيرًا فقط لمعاكسة خطط جارك، فلن يبقى الكثير من الطاقة لدفع أجنداتك. والآن بدأت اللوبيات الأخرى وحتى الأحزاب تلعب على هذه الاختلافات. فاللوبي الإيراني مثلا ليس حبًا في فريق على آخر ولكن من باب (حيلهم بينهم) ويستخدم بعض الاختلافات لتقوية نفسه والحصول على سلم للوصول لأهدافه، الآن حتى جماعات ضغط ولوبيات بدأت تتقن اللعبة وتأخذ جانب أحد الأطراف وتزيد الطين بلة، وجعل الأمور مستمرة لكي تستمر استفادتهم وحصولهم على غنائم من الطرفين، لكن هذه المعارك فيها إرهاق للطرفين وفي المحصلة دون الحصول على مكاسب إضافية.

تصور لو كل هذا الجهد والإمكانات بذلت من جميع الأطراف الخليجية من أجل هدف مشترك واحد لكان الخليج الآن صاحب الكلمة الأعلى في واشنطن وحتى أوروبا.

وفي نهاية اليوم اليسار يبقى شعبويًا ومهمًا استخدمه بعض الأطراف الخليجية أو اليسار نفسه استخدم هذا الطرف، فإن الفكر اليساري مجرد موضة أو موجة ومردها أن تهبط وتتلاشى، والتاريخ يعلمنا أن اليسار مهما ارتفع فإنه سيسقط، أعطونا مثالا واحدًا في العالم لدولة يسارية أو اشتراكية ناجحة؟، بل اليسار ممكن أن يتطرف ويصبح راديكاليًا مثل ما حدث في الألوية الحمراء في إيطاليا والجيش الأحمر في ألمانيا والعمل المباشر في فرنسا من السبعينات والثمانينات وجيش التحرير السمبوزي الأمريكي وحركة 19 مايو الشيوعية في أمريكا، كلها اختفت، صحيح ليس كل اليساريين بهذا التطرف لكن التاريخ يعيد علينا أن الثابت الوحيد في حركة اليسار هو الاضمحلال التدريجي مهما قويت لفترات.

إذن الثوابت الأقوى التي ستبقى بين دول الخليج هي المصالح والتاريخ والجغرافيا والشعوب، لا يستطيع أي طرف خليجي إلغاء الآخر لذلك التعايش دون إلغاء أو محاولة الإضرار بالآخر هو جوهر الاتحاد الخليجي، ولو فكرت بعض الأطراف بسعة أفق لوجدوا أن مصالحهم الإستراتيجية العليا في بقاء الخليج قويًا موحدًا بدل أن يراهن البعض على اليسار أو الإعلام أو أصحاب المصالح الغربيين المتغيرين أكثر من الزئبق.