النصائح الداعية للحوار كثيرة، وغالبها تفتقد لتتمات لازمة لها، من قبل ومن بعد، بخاصة وأن الهدف الأسمى من أي تحاور هو إظهار الحق والوصول إليه، وإزالة الالتباس، وتضييق الفجوة، ورفع الجفوة، والتقريب بين وجهات النظر، وعدم إفساد المودة.

لا يمكن أن يستقيم أي حوارـ عن قرب أو عن بعدـ يتخلله همز أو لمز، أو سخرية أو استهزاء، أو تجاوز باللسان أو بغيره؛ ولا يمكن أن يستقيم الحوار كذلك دون أن يحسن كل طرف الاستماع للآخر، مع ضرورة عدم مقاطعته، وأهمية الانتظار حتى ينتهي من عرض فكرته، وعلى الطرف المتحدث عدم الإطالة في الحديث، خوفا من التسبب في تشتيت السامع، أو إيقاعه في الملل، وعلى المحاور أن يتوقف عن الحوار إن ظهر الحق ضده؛ فليس عيبا أبدا أن يسلم الإنسان بخطئه، أو أن يقر لغيره بالصواب، وهذا حتما سيزيد من قيمته المعنوية، ولن ينقص من قدره..

من أهم المسائل المتعلقة بالحوار، الصبر والروية، وعدم الضجر أو اليأس، وضرورة التلطف واللين وتجنب العنف في القول والفعل، ومن آكد الأمور كذلك ما يسميه العلماء المتخصصون «تحرير محل النزاع»، وهو المذكور في قول الحق، سبحانه وتعالى، في سورة الكهف، آية رقم 22 {.. فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً..}، أي أن يكون الحوار واضحا ومحررا، ومن دون ذلك سيتشعب الكلام، وسيكون الوصول للنتائج المرجوة مستحيلا، وهنا يلزم أن يكون كل طرف على علم بموضوع الحوار، وأن يكون الكلام ضمن تخصص المتحاورين، وفيما يجيدونه من علم، كما قال سبحانه في الآية 66 من سورة آل عمران: {ها أنتم هٰؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.


أختم بأن نصيحة «التخصص»، حذر الحكماء من عدمها في الحوار، ومن نصائحهم في هذا الشأن قولهم «لا تكن حاطب ليل»، وهي مأخوذة من نصيحة الإمام الشافعي، وهو يذكر من يحمل العلم جزافا، فقال: «هذا مثل حاطب ليل، يقطع حزمة الحطب، فيحملها، ولعل فيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري»، ذكرها الإمام أبو حاتم الرازي في كتابه «آداب الشافعي ومناقبه»، ص:74؛ وهذه النوعية من «الحطاب» مما يصادفه الناس في المجالس والصحف ووسائل التواصل؛ ومن موروثاتنا العتيقة، ما ذكره الإمام ابن سعد البصري في الجزء الخامس من كتابه الشهير (الطبقات الكبرى)، أن رجلا ـ من تلك النوعيةـ قال للإمام مالك: «قد سمعت مائة ألف حديث، فقال له الإمام مالك: مائة ألف حديث! أنت»حاطب ليل تجمع القشعة..»، أي أنه احترف الإكثار من الجمع للكثير من الرديء، بلا فهم، ومن دون فقه؛ ومصيبة هذه النوعية ـ «الحطاب» ـ أنهم «لا يدرون «أنهم»لا يدرون»، وهي أشد أنواع البشر إيلاما؛ يقول الإمام الغزالي في الجزء الأول من كتابه القيم «إحياء علوم الدين»: «قال الخليل بن أحمد: «الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري؛ فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهل فارفضوه»، ومعنى الكلام أن من «لا يدري أنه لا يدري»، حري بغيره أن يرفضه وكلامه، وإن كان ذلك مؤقتا.