الشهية مفتوحة في لبنان لأمرين، المال القادم من العالم الآخر؛ ورائحة الدماء والبارود. المجرمون أدمنت أنوفهم على رائحة هذا الخليط. والمؤيدون لهم من سياسيين وقواعد شعبية؛ عبارة عن قطيع يجري وراء سيد السلاح. ينفجر مرفأ، أو مطار، ويندثر قلب سوليدير بيروت، لن تطل العدالة برأسها، إلا عبر نافذة إطلاق شعارات الحصانة، لحماية القتلة وتجار الدم.

أذكر أن حزب الله حاول في اليوم الذي تزامن مع ذكرى انفجار المرفأ البيروتي، استدراج تل أبيب لحربٍ أو مواجهة سريعة، من خلال إطلاق عدة صواريخ على الأراضي الإسرائيلية. كانت فكرةً لصرف نظر الشارع اللبناني وتخفيف الضغط عن تُجار «نترات الأمونيا» المستقرين في ضاحية بيروت الجنوبية، نهار نزول غالبية الشعب إلى الشارع تعبيرًا عن غضبٍ مُستشرٍ تسبب به غياب محاسبة المسؤولين عن الكارثة.

ورئيس الجمهورية في صباح الذكرى الأولى للتفجير، أطل من القصر لمناكفة إسرائيل، مُتجاهلاً أهالي الضحايا ودموعهم وصيحاتهم، نتيجة تلك الكارثة، التي وصفها يومًا ما المجرم الأكبر حسن نصر الله الذي يتحالف معه ميشال عون رئيس الجمهورية بـ«الحادثة»، في صورة من صور التمييع والتقليل من أرواح البشر.

فقد اشترط فخامته حينها على المجتمع الدولي، الحصول على إعانات، للقضاء على الفاسدين!. مرّ عامٌ كامل لم يُحرك في الملف قيد أنمُلة، وذهب يتوسل الإعانات مقابل تحقيق أدنى واجباته. إنه أمرٌ مُقزز أكثر مما هو مُضحك ومثير للسخرية.

بعيدًا عن فرنسا التي احتضنت مؤخرًا، مؤتمرًا دوليًا مرئيًا لدعم لبنان، كانت الرسالة التي تحمل في طياتها كبد الحقيقة والأسلوب الطبيعي للتعامل مع تلك الدولة قادمةً من الرياض. إذ قالت على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان ما لم تستطع دول العالم قوله. لقد وضعت إصبعها على الجرح، وأكدت أن تقديم أي مساعدات للحكومة اللبنانية، يجب أن يكون مرهونًا بإجراء إصلاحات جادة، مع ضمان وصولها إلى مستحقيها.

وينُمُ هذا الحديث الصريح عن خشية السعوديين أن تتحول المعونات ليست السعودية فحسب، بل العالمية، إلى البيئة الحاضنة لحزب الله ومن يدور في فلكها، كالتيار الوطني الحر التابع لرئيس الجمهورية، وصهره العبقري جبران باسيل، خصوصًا أن المملكة تعد الحزب والمتحالفين معه، أساسًا للخلافات اللبنانية – اللبنانية، نظير الهيمنة على مفاصل الدولة.

ولم تتوقف الرياض عند هذا الحد، بل طالبت الساسة اللبنانيين باختلاف أطيافهم، بالتصدي لسلوك حزب الله، لتحقيق تطلعات الشعب، من خلال مكافحة الفساد، وتنفيذ حزمة من الإصلاحات المنتظرة. ماذا يعني ذلك؟. يعني عدة أمور: أولها، أن السعودية لم تتوان يومًا عن دعم لبنان وشعبه، إلا أن فرض القبضة التي ينفذها حزب الله بـ«السلاح السائب»، لم تعد تحتمل، وأنها باتت عائقًا يحول أمام مد يد العون للبنان. وثانيها، أن المسكوت عنه في السابق، أصبح الحديث عنه مُتاحًا حاليًا، وهو أن سياسة المال السياسي ولّت واندثرت أزمانها، باعتباره كان سياسةً لم تؤتِ ثمارها، وأن معظم من حصل عليه من اللبنانيين، انقلب بشكل وبآخر على السعودية، وحول سهامه ضدها. والحديث عن هذا المحور تحديدًا، يجب أن يكون بمستوى عالٍ من الشفافية والوضوح.

وثالث الأمور، هو استيعاب المملكة عجز مؤسسات الدولة اللبنانية عن تأدية دورها، جراء شلّ حركة رئاسة الجمهورية والحد من صلاحياتها، بل وتكبيلها، بسبب الإدراك أن الرئيس أمام واجب الوفاء وإعادة الجميل لحزب الله، الذي أوصله بعد استماتته لسُدة الحكم.

وباعتباري أتفهّم التفكير السياسي السعودي، فعدم تقديم المتسببين بجريمة مرفأ بيروت بعد مُضي عام كامل، ودوران القضية في محلها منذ ذلك التوقيت، وتقاذف المسؤولية بين هذا وذاك، يعني اختلالاً للثقة بالمسؤولين اللبنانيين، الذين انشغلوا بتقاسم الحقائب الوزارية، فيما يُعاني ذوو ضحايا ذلك التفجير المُدوي من عدم الحصول على حق دماء أبنائهم. إنه منتهى اللؤم والأنانية والاستهتار بالإنسان. فالأمر والمشهد في لبنان مُقزز ويدعو للاشمئزاز بكل المقاييس.

أعتقد، بل أكاد أجزم أن الكثير فهم الامتعاض السعودي، بعيدًا عن الرومانسية ولغة الهدوء التي تُجسدها دول أوروبا والعالم الغربي بأسره، ممن تنظر للبنان من باب ضرورة التبعية والخنوع، أو على الأقل من نافذة الاستعلاء، إلا الساسة في تلك الدولة، لم ولن يفهموها. لماذا؟. لبلوغهم أقصى مراحل الغطرسة السياسية التي دعتهم للتقليل من أنين البشر، وذلك نابع من فقدان الهوية اللبنانية، التي يقودها حسن نصر الله امتثالاً لأوامر سيده في طهران.

إن الوضع السائد في لبنان، يُذكرني بتقريرٍ صحافي قرأته قبل فترة بهذه الصحيفة، احتوى على تصريحات لأحد من يترأسون مختبرًا لتربية البطيخ والقرع. قال الرجل إن مشكلة المحتوى المحتمل للنترات في البطيخ مبالغ فيها إلى حدٍ كبير، وأنه لا توجد نترات في البطيخ الناضج، بل يتم استهلاكها خلال فترة النمو، ويعتبر ذلك بمثابة فيتامينات تستفيد منها هذه النبتة.

على الفور انقدت من باب التهكم إلى الخيال، وتصورت انفجار كل بطيخ الأرض نتيجة احتوائه للنترات. وكنت على ثقةٍ بأنه سيكون انفجارًا بلا ضحايا ولا أيتام أو ثكالى أو ضحايا ومصابين، بل سيكون ذا لونٍ لطيف، ونكهة ألطف.

أعتقد أني سألتمس عذرًا لمن استقدم نترات الأمونيوم للمرفأ اللبناني. فلم يكُن هدفه دعم النظام السوري الذي استخدم أطنانًا منها ضد الشعب، ولن تدخل بأساسيات تصنيع سلاح حزب الله الإرهابي ومفخخاته. ولم يصمت رؤساء حكومات ووزراء من الحديث عنه خوفًا من سطوة سفاح الضاحية. ولم تُبعد الرقابة والإهمال عنها أثناء وجودها في الميناء وبيروت تلتحفها.

قد يكون هدفه التوسع في زراعة البطيخ؛ حتى يُصار للقول؛ بلا لبنان، بلا بطيخ. يُمكن ذلك.

المهم.. بلا لبنان بلا بطيخ.