مي زيادة، الأديبة الفلسطينية/اللبنانية الفريدة، برزت في عشرينات القرن الماضي في وقت لم تبرز فيه امرأةٌ عربية، خطفت القلوب، كانت ذكية بما يكفي لتسبق عصرها وتتعلم لغات عدة، عُرفت بأنها سريعة بديهة، لماحة، سريع التعلم ومحبة للعلم، قرأت كثيراً من السير الذاتية إلا أن مي كانت من الأفضل، اسمها الحقيقي ماري إلياس زيادة، امتازت بسعة الأفق ودقة الوصف وجمال اللغة، نشرت كتاباً رائعًا يسمى بـ(غاية الحياة) من دار نشر هنداوي.

عندما تقرأ أنت عنوان (غاية الحياة) يتبادر إلى ذهنك أسئلة عدة، فالحياة تشمل الكون بأسره مما يرى ومما لا يرى، معنى عميق وواسع.

تقول مي زيادة عن ذلك إن الغاية والوجود والفناء لغز رائع لا يستطيع حله الإنسان! مهما ارتقى وبلغ مبلغاً عظيما بالعلم.

ذكرت مي في كتابها عبارة رائعة بقيت في ذهني لشهور عدة وصرت أحفظها عن ظهر قلب وهي "وما غايتي من الحياة؟ أأعرفها أنا؟ وهل تشعر هي أو تبالي بوجودي؟ ما هي يا ترى؟ أثروة أبتغي حشدها؟ أجاهٌ، أم قدرةٌ، أم حالٌ أنعم فيها بجميع أسباب الهناء؟ وأتذوَّق خلالها لذائذ الفوز والسيطرة! أهي علم لا أفتأ أذهب في غوره ليكشف لعاقلتي حجب الحياة وأسرارها؟".

تشبه مي زيادة النفس البشرية ببركة الماء، فتقول إنها مهما راقت صفحاتها وتلألأ سطحها تحركت قليلاً فتتعكر بما ركد في أعماقها من الوحل، كذلك الإنسان فما أن يصل إلى أعلى ما يصبو إليه ويتمنى تطمع نفسه بالمزيد والأفضل ويخرج ما في دواخله من الهموم والمآسي فلا يرضى إلا قليلاً.

ترد مي على سؤال العنوان بأن غاية الحياة هي السعادة والعمل، إذ أنها لا تصف العمل بأنه فقط مصدر للمال والرزق بل تقول أن كل قيمة العمل في أنه موصل إلى الغاية المقصودة، ولكن قيمته المعنوية الكبرى في كونه آلة الاستقلال الفردي، وخالق الاحتياج إلى الاعتماد على النفس.

فعندما يعمل الإنسان عملاً ويتقنه، فإنه يتعزز في داخله كفاءةً وإقدامًا، بالعمل يرفع رأسه الذي أحناه الطلب، وينظر إلى الناس كأشباه له فلا هم فوقه ولا هو تحتهم.

ثم تكتب الرائعة مي نصاً رائعا وهو "وينظر الشخص إلى الحياة متفرسا في ملامحها بلا وجٍل؛ لأنه تعلم في مدرسة الاعتماد على النفس أن المصائب والمحن والمعاكسات الداخلية والخارجية تعجز عن النيل من قواه الجوهرية، وإن تلك الرزايا إنما هي عناصر اختبار، له أن يستخرج منها دروسا قيمة ومعلومات جديدة تزيده قوة ونبلا. ليس النبيل من ورث نسبا ومالا فاستخف بالناس والأشياء اتكالا على وراثته، بل النبيل من خلق نفسه، وما زال بها كل يوم يجددها بعمله ليخلف للمستقبل ثمرة مجهوداته، النبيل من لا ينتظر "الظروف" و"الحظ" و"البخت" تلك الكلمات التي يتعذر بها الذليل الخامل، بل ينتهز الفرص ليجعلها صفحات جليلة في كتاب عمره. وما الأيام والساعات سوى فرص ثمينة للإنسان يستخرج منها العجائب."

ثم تتطرق إلى موضوع المرأة، وتذكر أمثلة على قوة المرأة في حين كانت في ذلك العصر مهمشة يتكلمون عن ضعفها، فتقول "إذا أرادت المرأة غاية، فإن كانت هذه غايتها اليوم انطلقت إليها بقوةٍ ساقت ملايين ملايين النساء منذ أن وُجد النوع البشريُّ، لا تبالي أصادفت وعرًا أم اصطدمت بصخرٍ، وإن تغايرت الغاية سيقت بذات القوة يزكيها التوقُ إلى المجهول ولذة الاختلاف والرغبة في النجاح، فتتفوَّق في عملها، إن شرًّا فهي السفاحة ماري تيودور أو هي ريا وسكينة بطلتا فظائع الإسكندرية، وإن رأفةً فهي الأمُّ المفادية والشفيقة العاكفة على فراش المريض تصدُّ عنه الموت وتجلب إليه العافية، وإن حماسةً وفخارا فهي جان دارك ومدموازل بوستافويتوف البولونية،”

فتنصح النساء بنصيحة هامة، وتقول: "العمل، العمل الذي ينير العقل، ويفتح القلب، ويملأ الوقت، ويحبو الحياة طعمًا لذيذا، فلتعمل المرأة أيَّ عملٍ ينتظر يدًا تقوم به، وكل عمل تشعر من نفسها بميل جِدِّيٍّ إليه، وسواء كانت مشتغلة لتعيش أو لتلهو، لا فرق بين نوع العمل من علم وفن وخياطة وتطريز وتدبير منزل أو بيع في المخازن، فالأمر الجوهريُّ هو الاجتهاد، ووضع قلبها وفكرها في ما تعمله لتتقنه" فالمرأة أن أحبت نفسها كانت لنفسها خير المرشد، واذا اتكلت على نفسها واستقلت بذاتها فهي لا تخون ذاتها ولا تفقدها، فكل من تعتمد عليه زائل وذاهب، فما أجمل من امرأة تمتلك صفة الإباء والإستقلال الفردي؟

هناك كثير من الروائع في هذا الكتاب رغم أنه صغير، من رأيي أنه كتاب يجب للجميع أن يقرأه، لتؤكد لنا الكاتبة أن إعجاب الجميع بشخصيتها شيء حقيقي فهي استثناء ومفكرة كبيرة ومبدعة، لنتكاتف سوياً نحن النساء ولا نرضى إلا بالأفضل، لنرى أنفسنا كمن يستحق أجمل شيء دائما، فنحن نستطيع، لدينا عقول رائعة تجمع بين قوة ورأفة، وألسن عذبة بالفطرة تترجم ما يحكيه فؤادنا الرقيق، نحن ناجحات أيضا بالفطرة، فالمرأة قبل أن تكون وزيرة في البلاد أو ذات منصب مرموق فهي وزيرة في منزلها، فالأم إن اختفت يوماً واحداً تعطلت جميع الأشغال والأعمال، أنني أفخر كل يوم لكوني أنثى.