«حتى أنت يا سفينة الصحراء» كررت هذه العبارة في لحظة استهجان وعبر مونولوج داخلي وحوار مع النفس، بعدما دخلت أحد تطبيقات التوصيل، ووجدت أحد وجبات الحاشي تحمل اسم (حاشي إكسبريس) وعبارة إكسبريس تعني سريع، في إشارة ضمنية أن الحاشي صاحب الخطوات الثقيلة والمتأنية قرر أن يدخل عالم السرعة وعصر الحداثة. بل إن الحاشي قد وضع له موطئ قدم في عالم البرجر، فاليوم تزخر مطاعم البرجر بوجبات تحمل اسمه وصورته، وأصبحنا نرى برجر الحاشي وسبايسي الحاشي وفاهيتا الحاشي.

في الوقت الذي ظلت مطاعم كبسة الحاشي تحقق مزيدًا من الأرباح وتكسب ولاء مزيد من الزبائن وظلت وجبات مضغوط الحاشي ومكموت الحاشي ومدفون الحاشي تحقق مبيعات مرتفعة، ولكن الحاشي ومنتجاته دخلوا ساحة التشابك الثقافي وتورطوا في عمليتي سجال وتفاوض حول الهوية وظهر للوجود حالة مقاومة ثقافية ما بين شد وجذب للبرجر والمضغوط، مما ينذر بدخول كبسة مضغوط الحاشي مرحلة شتات ثقافي بفعل اكتساح العولمة الطاغي.

تعيش كبسة الحاشي اليوم على نحو إشكالي، فالحاشي يريد مقاومة ثنائية المركز والهامش، في حين أن العولمة تفرض عليه العيش لحظات من الغرابة المعلقة على الحدود بين الثقافات والهويات. وبفضل براغماتية الحاشي قرر أن يمسك العصا من المنتصف، فهو كائن وسطي على كل حال، ويؤمن بقيم التنوير والحداثة، حتى وإن كان يومًا رمزًا للبداوة وشخصية محورية في أدبنا الرفيع وشعرنا الكلاسيكي فهذا لا يعني أن يقف الحاشي موقف الممانعة الثقافية على الدوام بل الأفضل له كي لا يتجاوزه الزمن ويعيش على نحو مأزوم أن ينخرط فعليًا في عملية السجال الثقافي الدائر، ويبدأ بإعادة إنتاج نفسه وتجديد خطابه عبر قراءة جديدة لواقعه على نحو يتيح له تفكيك الخطاب الثقافي السائد الذي يقصيه عن دخول المشهد الفكري على الصعيد العالمي.

بعد تناول وجبة برجر الحاشي مع الفرنش فرايز وصلصة الرانش، جاء في خاطري قراءة رواية «خان الخليلي» لنجيب محفوظ التي أعادت للذاكرة زيارتي السابقة لقهوة الفيشاوي في قلب خان الخليلي بالقاهرة، كان تناول القهوة والجلوس في تلك المنطقة من القاهرة القديمة يشبع الروح ويثير الشغف بما تحسه من أجواء الماضي وعبق التاريخ.

منطقة الحسين بالقاهرة منطقة حيوية يمتزج فيها الناس في حركة دائبة مع نداء الباعة المتجولين وانبعاث دخان الشيشة والسجائر في فضاء عام يشكل طابعًا ثقافيًا مميزًا للحياة المصرية الشعبية الجميلة التي لا يزال يرتادها السياح وعامة الناس لما تعطيه من إحساس بالجمال والبساطة ورونق الثقافة. إن ما يميز الشعب المصري أنه شعب يحب يعدل مزاجه، فالقهاوي جزء لا يتجزأ من روتينه اليومي وجزء أصيل في ثقافته، لذلك نادرًا ما تدخل المصطلحات العولمية داخل مقاهيه وأزقته وشوارعه، فهم يقولون: (قهوة الفيشاوي، قهوة ريش، قهوة فاروق، قهوة الحرافيش، قهوة أم كلثوم) ولا يستخدمون عبارة (كافي شوب) إلا نادرًا.

بعد تناول برجر الحاشي أخذت الرواية وذهبت لتناول «القهوة السوداء» في أحد محال تقديم القهوة القريبة من منزلي، ومع ارتفاع أسعار الكافي شوب مقارنة بأسعار القهاوي الشعبية ولكنه كان يتبع سياسة (serve yourself) أو سياسة (self service) والخدمة الذاتية تعد من ضرورات العصر السريع وثقافة السوق. على كل حال دخلت الكافي شوب ووقفت مع الواقفين في الطابور لنعدل المزاج وفق متطلبات العصر، لائحة الطعام والشراب المعلقة لا تعنيني بشيء، فكل ما أرغبه «قهوة سوداء» لا أكثر، فأنا لست من هواة البان كيك بيستاشيو أو البان كيك نوتيلا أو الكوكيز أو التشيز كيك أو التراميسو، المعروضة على قائمة السويتس.

تأهب أول الواقفين في الطابور لإعطاء (الأوردر) وبدأت الرطانة العولمية المثيرة للغثيان بين البائع والمشتري، يقول المشتري: (فلات وايت مع سبانش لاتيه ووايت موكا لاتيه) يكرر البائع طلب الزبون بصورة آلية لاعتماد الطلب: (فلات وايت سبانش لاتيه وايت موكا لاتيه وذ آوت كراميل) يأتي المشتري الثاني ليكمل مسلسل الرطانة (كراميل ماكياتو آند آيس وايت موكا وذ كراميل) ويقول آخر: (أولد فاشن فرنش توست تشوكلت آند آيس بيستاشيو لاتيه وذ كراميل آند هوت سبريسو) طبعًا هناك عامل نفسي مشترك بين البائع والمشتري، عندما يقدم المشتري طلاسمه ثم يقوم البائع بترديدها بشكل آلي، فإن هذه تمثل طقوس وتراتيل لتناول الكافي يجب اتباعها لأنها تمثل طقوس التعميد لدخول عالم العصرنة والإتيكيت، والتفاهم المشترك بينهما دلالة على وجود اتصال روحاني لولوج فضاء الكوفي.

أحذر أن تدخل الكافي شوب وتطلب شاي تلقيمة أو شاي ليبتون لأن لها دلالتين سلبيتين في عالم الكوفي شوب: الأولى وهي أن ميزانيتك محدودة والشاهي طبعًا المشروب الأرخص في قائمة الكوفي شوب، والثانية أنك لا تحسن طقوس وتراتيل ورطانات الكافي شوب وهذا يعني أنك إنسان بلدي أو حديث عهد بعالم الكوفي شوب.

في الكافي شوب لا تقل الكلمات التالية: (بارد، ساخن، مع، ثلج، بدون، سكر، كأس، أبيض، أسود، قهوة سوداء، شاي مثلج، صغير، وسط، كبير) لأنها عبارات تفسد طقوس وتراتيل وطلاسم الكافي شوب، وقل بدلا عنها (كولد، هوت، وذ، آيس، آند، وذ آوت، شوقر، كوب، وايت، بلاك، بلاك كوفي، آيس تي، سمول، ميديام، لارج). وأحذر عند قراءة تراتيل الطلب أن تتلعثم أو تكرر طلب الزبون الذي قبلك، فالثقة عند قراءة تراتيل الطلب ضرورية في مجتمع الكوفي شوب، لذا يا عزيزي القارئ ردد معي «سمول دبل شوت اسبريسو كورتادو آند لارج وايت موكا وذ كراميل».