أعلن ما يزيد على مائة من قيادات حزب «النهضة» الإخواني التونسي استقالتهم من الحزب، احتجاجا على خطه السياسي، وتجربته في الحكم، وامتعاضا من السياسة الاستبدادية لرئيسه راشد الغنوشي، الذي يتحكم في كل دواليب الحزب منذ تأسيسه الرسمي في 1981.

عكست هذه الانسحابات الأخيرة المأزق الكبير الذي تعيشه حركة «النهضة»، بعد إعلان الرئيس قيس سعيد تجميد البرلمان وإقالة حكومة هشام المشيشي التي تشارك فيها الحركة، فبعد أن حاول «الغنوشي»، في 25 يوليو، تحريك الشارع ضد ما سماه «انقلابا على الشرعية»، مستقويا ببعض الأوساط الخارجية، فشل فشلا ذريعا في مواجهة التحول الذي يبدو أنه مدعوم بتأييد شعبي جارف، قدرته بعض استطلاعات الرأي بما يزيد على %90من أصوات السكان.

المغزى الحقيقي من تراجع «النهضة»، شعبيا وسياسيا، هو إخفاق خط «الغنوشي» الذي قدم نفسه منذ نهاية الثمانينيات على أنه مفكر الإصلاح السياسي والانفتاح الليبرالي داخل منظومة الإسلام السياسي، ولم يتردد في نقد تجارب الجماعات الإخوانية في الحكم، وكتب «الغنوشي» في الحريات العامة وتحرير المرأة والديمقراطية، وركب موجة التغيير الثوري في تونس، واعتبرته بعض الدوائر الغربية مثالا للاعتدال والتسامح، إلا أن تجربة الحكم أثبتت أنه لا يختلف في الجوهر عن غيره من زعامات الإسلام السياسي.

تحالف «الغنوشي» في 2011 مع بعض تنظيمات اليسار، وعين أمين عام حزبه، حمادي الجبالي، رئيسا للحكومة، وإن ظل يمارس السلطة الحقيقية على طريقة المرشد الأعلى في النظام الإيراني، وهو ما أقر به من بعد «الجبالي» نفسه، الذي استقال من حزب النهضة في 2014، بعد أن لفظت انتفاضة الشارع التحالف الحكومي الثلاثي الذي يقوده.

بعد وصول الرئيس قيس سعيد إلى السلطة في 2019 بتأييد شعبي غير مسبوق، سعت حركة «النهضة» إلى إقصائه كليا من الساحة السياسية، من خلال التحالف مع مافيا الفساد السياسي والمالي، فأصبح البرلمان، الذي هو مركز السلطة حسب دستور 2014، مصدر الخطر الأكبر على استقرار تونس، وسلامة مؤسساتها، حتى انهارت الدولة الحديثة، التي بناها زعيم الاستقلال الحبيب بورقيبة، إلى أن أصبحت عاجزة عن تأمين صحة مواطنيها، وتوفير الأمن والحد الأدنى من الرفاهية، فكانت قرارات الرئيس قيس سعيد نقطة تحول في تاريخ المسار السياسي التونسي.

الحصيلة اليوم واضحة لا لبس فيها، فحزب «النهضة» معزول داخل الحقل السياسي التونسي، لا أحد يقبل التحالف معه، وحتى الأحزاب التي اعترضت على قرارات الرئيس سعيد ترفض بشدة منح «طوق النجاة» لـ«حركة الغنوشي»، التي تدعي اليوم الدفاع عن الشرعية والمؤسسات الدستورية.

يفرق مفكرو القانون ما بين «المشروعية» و«الشرعية»، فالأولى هي المعيار الحقيقي لقياس وتقويم القرارات السياسية، لأنها تستند إلى القيم العليا والمبادئ الثابتة، وفي مقدمتها مبدأ سيادة الشعب المطلقة. أما الثانية، فلا تتعدى التأقلم مع مقاييس صورية وتقنية، قد تتحول إلى عائق أمام التغيير المطلوب شعبيا.

كان «الغنوشي» يقول إن الإخوان المسلمين لا يتعلمون من دروس التاريخ، وقد أثبتت الأحداث أنه لا يختلف عنهم في التقدير والتفكير، وبالتالي لا يختلف عنهم في الحصيلة النهائية، وفي نتيجة التجربة.