مرات ومرات، وعقلاء الناس يرددون أن الله، سبحانه وتعالى، لو شاء أن يخلق الناس على دين واحد، أو عقيدة واحدة، أو لغة واحدة، أو لون واحد، أو جنس واحد، أو جنسية واحدة لفعل؛ ولكنه عز جلاله، لم يرد ولم يشأ ذلك، وهذا ما يقرأه الناس جميعا في قوله سبحانه تعالى، في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ..}.

يذكر الشيخ صالح ابن حميد، في الصفحة 9 من كتابه القيم «أصول الحوار وآدابه في الإسلام»: أن «اللام» في قوله تعالى {وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}، «ليست للغاية؛ فليس المُراد أنه، سبحانه، خلقهم ليختلفوا.. وإنما هي للعاقبة والصيرورة؛ أي لثمرة الاختلاف خلقهم»؛ وقد تُحمل اللام على التعليل كما يقول الشيخ القاسمي في الجزء 6 من تفسيره (محاسن التأويل) عن القاشاني: «خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق، وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا»، وفي الجزء 6 من تفسير المنار: «خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم، وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم، ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان»..

لا أشك أن المتأمل، وصاحب البصيرة يفهم أن الإرادة الإلهية اقتضت أن يكون التعدد أو الاختلاف بين البشر أساس، لا يمكن أن يحيد عنه الزمان أو المكان، ومن لا يستطيع أن يصل لهذا الفهم، فحتماً لن يفهم مجموعة من الحقائق والثوابت الربانية التي لا يمكن لكائن أي يغيرها، ولو فعل ما فعل؛ كما أن احتمالات فرض العقائد على الناس لا يمكن أن تنجح، بأي حال من الأحوال، وهذا أمر تضمنه الآيات القرآنية، ومنها قوله عز شأنه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، و{فمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، و{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، و{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، و{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّار}، و{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، والآيات كثيرة، وكلها تؤكد أن الفرض مستحيل، حتى لو كان لصالح الإسلام، لأن عقائد الناس حق لهم، واللعب بها حيث مصالح الناس وأهوائهم وحوائجهم مذموم، وغير مقبول أبداً أن يخطف أحد عقل أحد، بقوة غير قوة الإقناع، لا غير..

ليس معنى ما تقدم أن يتجنب الناس النقاشات الإيجابية فيما بينهم، فهذا أمر لا داعي له، والمهم أن يسأل الإنسان نفسه: إن كان قادراً على النقاش بطريقة بنّاءة أم لا؟ وهذه مسألة تحتاج للالتزام بمجموعة من النصائح الثمينة، وفي مقدمتها أهمية الإصغاء للآخر، وعدم تجاهل حديث الشخص الذي تواجهه، أو أن تفكر في إلغائه، أو أن تظن أن مجرد الاستماع كاف، فالفرق بينه وبين الإصغاء دقيق؛ ومن أجمل نصائح خبراء النقاشات أن يعيد الواحد ما قاله الآخر، وخصوصاً عندما يكاد النقاش يحتدم بين أطرافه، للتأكد مما يقوله هذا لذاك، وما يقصده بالتمام، وما النقاط المتشابهة والمتشابكة، وأن يكون الهدف النقاش، لا الشخص، مع ضرورة أن يعي من يناقش أن شعوره أنه على حق، لا يعني أنه صحيح فيما يراه، بل ربما يعني أنه مخطئ.