... ولندع الكلمات الكبيرة، فإنني لا أنسجم معها، رغم أن الحديث قد اضطرني إلى مقاربتها، فما أقوله لقرّائي أنني ولدت في حيّ فقير بائس في مدينة اللاذقية، وفي دار تتقاسم عائلات فقيرة غرفها، وقد اضطرت أمي إلى حرماني من نصف حليبها، وبيع النصف الآخر إلى ابن عائلة ثرية، كانت تعمل عندها، يُقال إن أخي في الرضاعة كان «جول فيتالي» وهو من الأغنياء الذين عاشوا حياة ترفة، ولم أر له وجهاً، لأنه ارتحل قبل سنوات.

لقد صوّرت وضعي الصحي العليل في سيرتي الذاتية، ومنها تعرفون وضعي العائلي الغارق، حتى الاختناق، في حفرة شقاء تدافعناه، بكل ما نملك من إرادة، فلم يندفع! أمي وأخواتي الثلاث، عملن خادمات، عملت أنا الصبي الوحيد، الناحل، أجيراً، كذلك عمل الوالد، سليم حنا مينة، الخائب في كل أعماله ونواياه، حمّالاً في المرفأ، بائعاً للحلوى، وللمرطبات، مرابعاً في بستان قاحل إلا من أشجار التوت، ومربيّاً لدود القز، ثم عاود، بين كل هذه الأعمال وأثنائها، سيرته في الترحال، كأنه «موكل بفضاء الله يذرعه»، كان أبي - رحمه الله - رحّالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية لنداء المجهول، تاركاً العائلة، أغلب الأحيان، وفي الأرياف، للخوف والظلمة والجوع، ولطالما تساءلت: وراء أي هدف كان يسعى؟ لا جواب طبعاً، إنه بوهيمي بالفطرة، وقاص بالفطرة، يصنع من أي مشهد حكاية شائقة، وقد أفدت منه، في هذا المجال فقط، كان رخواً إلى درجة الخور أمام شيئين: الخمر والمرأة! لم يفز بالمرأة ولم يستمتع بالخمر.

كان يسكر إلى درجة التعتعة والسقوط والنوم حيث يسقط. لمجرد شرب كأس أو كأسين. يا للأب المثالي، الذي كافأته، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمره، مكافأة حسنة، متجاوزاً عن كل ما ألحق بالعائلة من أذى، وليس في ذلك منّة، بل واجب البنوّة وحده.

من اللاذقية، حيث ولدت، تشرّد الوالد، وجرّ العائلة معه، إلى متاهة الضياع، وهذا التشرد فرض علي البحث عن اللقمة أولاً، وفرض علي، ثانياً، العمل الشاق في السياسة، وأمنيتي، الآن، أن أتشرّد من جديد، لأنني أكاد أتعـفّن بين الجدران الأربعة من مكتبي في الوظيـفة، ومن مكتـبي في البيت، الذي أعمل فيه وسط شروط لا إنسانية!

الرحلة، في الخطوات الأولى، انطلقت من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مروراً بأسكندرونة، ثم اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوجت، وتشردت مع عائلتي لظروف قاهرة، عبر أوروبا وصولاً إلى الصين، حيث أقمت خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، وقد دام، هذه المرة، طويلاً، حتى قارب العشرة من الأعوام، لم أكتب فيها حرفاً واحداً، وبذلك ضاع استواء رجولتي بين الثلاثين والأربعين من عمري، سدى، فالنبتة قلّما تعيش إلا في تربتها! هناك استثناءات كثيرة طبعاً، لكن غربتي، وهي مهنتي الشاقة، تختلف جداً، بسبب ما ترتّب عليّ من كدح لإعالة أسرتي، التي كان نصفها معي، والنصف الآخر في اللاذقية.

لقد تزوجت مريم دميان سمعان، أصلها من بلدة السويدية، مصب نهر العاصي قرب أنطاكية، وكانت مقيمة في اللاذقية عندما التقيتها، وتعارفنا بعد هجرة العائلة من اللواء العربي السليب، إنها إنسانة طيبة، شعبية، لم تتجاوز دراستها الصفوف الابتدائية، أي أنها مثلي من ناحية التحصيل العلمي، لكنها بذكائها الفطري، تفهّمت ظروفي كمناضل سياسي ضد الانتداب الفرنسي قبل الزواج، كما تفهمت ظروفي بعد الزواج ككاتب، فوفّرت لي، في الحالتين، جوّاً أسرياً سعيداً، قوامه نكران الذات إلى حد التضحية، في سبيل إنشاء الأسرة، ومشاطرتي آلام الغربة، وتوفير الهدوء والصفاء اللازمين لي ككاتب، وإني مدين لها بنجاحي، وهذه مناسبة أتحدث فيها لأول مرة عن هذه الإنسانة الرائعة، التي كانت معي على الدهر، لا مع الدهر علي، وهذه مأثرة المرأة الرائعة دائماً، التي تتحلى بصفات نبيلة، ومنها الصبر، والتدبير، والخلق الكريم، حتى أجد نفسي عاجزاً عن الكلام الذي يفيها حقها، بسبب أنها تفانت، ولاتزال، لإسعادي، وللسهر على الأسرة في غيابي وحضوري.

إننا، هي وأنا، نقترب من نصف قرن من الزواج الناجح، والفضل في نجاحه يعود إليها حصراً، لأنها تتيح لي حرية اكتساب التجارب من جهة، والمناخ الملائم للكتابة عن هذه التجارب من جهة أخرى.

رزقنا خمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم، توفي في الخمسينيات، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد، أصغر أولادي، وهو ممثل ناجح جداً الآن، شارك في بطولة المسلسل التلفزيوني «نهاية رجل شجاع» المأخوذ عن رواية لي بهذا الاسم، فأبدى مقدرة غير عادية، في أدار دور «مفيد الوحش» عندما كان صغيراً، وهذا المسلسل لقي إعجاباً مثيراً، وبث إلى كل أنحاء العالم، كما شارك بدور البطولة «شاهين» في المسلسل التليفزيوني المهم «الجوارح» وكلا المسلسلين من إخراج نجدت إسماعيل أنزور، هذا الإنسان الموهوب إلى درجة الإبهار.

لدينا ثلاث بنات: سلوى «طبيبة»، سوسن «مخدرة وتحمل شهادة الأدب الفرنسي»، وأمل «مهندسة مدنية» وقد تزوجن، ولم يتبعنني على طريق جهنم: طريق الأدب!

بداياتي الأدبية الأولى كانت متواضعة جداً، فقد أخذت، منذ تركت المدرسة الابتدائية «هذه التي تعلمت فيها فكّ الحرف كما يقولون» بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة، كنت لسان الحي إلى ذويه، وسفيره المعتمد لدى الدوائر، أقدم لها، بدلاً من أوراق الاعتماد، عرائض تتضمن شكاوى المدينة ومطالبها، هنا كنت صدامياً ومنذ يفاعتي: إننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضى، أميّون، فماذا يريد أمثالنا؟ العمل، الخبز، المدرسة، المستشفى، رحيل الانتداب الفرنسي، مطالبة الحكومة، في فجر الاستقلال، أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا.

هذه كانت بدايتي، وقد دفعت الثمن، لأن المسؤولين، آنذاك، وجدوا فيّ مخلوقاً يطالب بقوة، بإلحاح، بجرأة، مع أمثاله، بما هو حق لهم، وماذا كنا نخشى؟ في السجن نجد اللقمة، وفي تحقيق هذا المطلب أو ذاك نلقى العزاء، ولم يكن لدينا ما نخاف عليه، لأننا، أصلاً، مخلوقات العالم السفلي.

بعد ذلك، وأنا حلاّق في اللاذقية، كنت أبيع جريدة «صوت الشعب» الناطقة باسمنا ونيابة عنا، وعن المسحوقين من أمثالنا، كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وكنا ضد النازية، وضد الاحتلال الفرنسي، وضد أغواتنا، وقد تدرّجت، من كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة، في صحف سورية ولبنان، إلى كتابة القصص القصيرة.

2001*

*روائي سوري «1924 - 2018»