«أبشر بالفزعة».. مقولة طالما سادت ردحًا من الزمن، حاملة معها كثيرًا من التباشير، دالة على تلبية الاستغاثة والتكافل الاجتماعي وتقديم العون والمساعدة، بما يعكس صورة لمجتمع متكاتف متعاون يهب كل فرد فيه لتلبية احتياج الفرد الآخر.

لكن هذه الصورة الشاعرية الجميلة، بدأت في الآونة الأخرة تنحرف بعيدًا عن مقاصدها التقليدية المعروفة، وبات كثيرون يتورطون لمجرد فزعتهم غير محسوبة المخاطر في زمن تغيرت فيه النفوس، وبات الغث يزاحم السمين، والعملة الرديئة تكاد تطرد الجيدة من السوق.

مفهوم وأشكال


الفزعة تعني المبادرة والمسارعة للاستجابة للاستغاثة، بما يدل على إنسانية الفرد واستحقاقه الاحترام، كما يقصد بها مناصرة الآخر عند احتياجه العون، وغالبًا ما أحيطت بكثير من التبجيل في مجتمعنا.

وتتخذ الفزعة أشكالًا عدة، منها الفزعة لإنقاذ الأرواح، وهي أكثر الفزعات التي تحظى بالتقدير، كما فعل كثير من السعوديين في كثير من حوادث السيول، وهي تقدير يحظى بتقدير إنساني بغض النظر عن جنسية وهوية الفازع، وهو ما وجده مثلًا الباكستاني فرمان علي خان الذي أنقذ 14 شخصًا خلال كارثة سيول جدة عام 2009.

ومنها الفزعة لفك أسر مضطر كما في حكاية المرأة العمورية التي استنجدت بالمعتصم من الروم بعدما وقعت في الأسر، فحرك جيشا لإنقاذها.

ومنها الفزعة لكفالة مدين، أو مساعدة زميل في عمل، أو تدخل لفض مشاجرة، أو الفزعة لإعانة بلد آخر، أو شعب منكوب، إلى آخر أشكالها التي لا تتوقف.

قيمة نبيلة

حرص المجتمع السعودي عمومًا على تكريس أهمية الفزعة وعدّها قيمة نبيلة متوارثة منذ القدم، تعزز التكاتف والتعاون، غرست في النفوس روح النجدة لنصرة المظلوم وتقديم يد العون.

وعرف العرب قديمًا قيمة الفزعة، فكانت قبائلهم تنصر بعض القبائل الأخرى، مستخدمة أسرع أنواع الإبل والخيل لنجدة إخوانهم، وكان بعضها يتحرك للفزعة فيطلق الصياح ليصل مسامع المستنجد أو يطلق الذخيرة ليؤكد قدومه، ليبعث الأمل في نفس المستنجد حتى قبل وصوله.

تحول واضح

في كتاب (جواهر الأدب)، تورد قصة مفادها أن «رجلًا يملك فرسًا نادرة ذات شهرة في المدينة، جاءه رجل يقال له ربيع يريد شراءها بأي ثمن فأبى صاحبها بيعها، وبعد أن يئس ربيع تنكر ذات مرة خارج البلدة ووقف في طريق صاحب الفرس متنكرًا في زي رجل مسكين عاجز عن المشي، فأشفق عليه صاحب الفرس ونزل ليحمله على فرسه، فلما تمكن ربيع من ظهر الفرس انطلق بها بعيدًا عن صاحبها، ثم توقف ونزع اللثام عن وجهه ونادى صاحب الفرس معلنًا أنه ظفر بها بدون ثمن، فلما علم صاحب الفرس أنه غُدر به قال له: أنت ربيع؟ قال: نعم أنا ربيع، قال: اسمع مني كلمة قبل أن تذهب، قال: قل، قال: لا تخبر الناس بما حصل، قال: ولمَ؟ قال: لئلا تذهب المروءة بين الناس، فرد عليه: لقد غلبتني، فأعاد إليه فرسه».

لكن تلك القصة التي تخوف أحد أطرافها من أن تذهب المروءة بين الناس إذا ما اُستغلت الفزعة في غير مكانها، بدت ـ بالرغم من أنها كتبت قبل مئات السنين ـ بمثابة التنبؤ بما يحدث الآن، حيث صارت الفزعات تورط أصحابها، وصارت ورطاتها بمثابة تقليد عادي متكرر، أوصل الأمور حد التحذير من تبعاتها.

ورطة مع صديق

في الوقت الذي كان يدفعه الحماس لمساعدة صديق له لم يتوقع تورطه في مساءلة مالية جعلته يدفع ثمن تلك الفزعة التي اعتبرها نقمة عليه.

هكذا يضيف أحمد صالح وهو موظف في إحدى الشركات الأمر الذي عايشه منذ فترة، ويقول «استعان بي زميل كي أكفله لدى إحدى مؤسسات التمويل للحصول على قرض شخصي بمبلغ 100 ألف ريال، وبحكم العشرة الطويلة بيني وبين هذا الصديق فلم أفكر كثيرًا بالتبعات، وبادرت فورًا للموافقة على كفالته».

ويضيف «بعد مرور 3 أشهر فوجئت باتصال من المؤسسة التمويلية تطلب مني الوفاء بدفع المبلغ عن صديقي لأنه لم يقم بسداد أقساط متأخرة عليه، وبعد الطلب منهم بالتواصل مع هذا الصديق فوجئت أنه لا يتجاوب مع اتصالاتهم، ما دفعهم لمطالبتي بالسداد باعتباري الكفيل».

ويكمل «حاولت التواصل مع هذا الصديق، لكنه غير أرقام الاتصال به، وحين ذهبت إليه شخصيًّا والتقيت به لأقنعه بسداد المتأخر عليه للمؤسسة التمويلية رفض السداد، ووصلت الأمور حاليًا إلى المحكمة وما زلت أنتظر الفصل في القضية».

فزعة مشاجرة

أما ما حدث لأحد الشباب ـ فضل عدم ذكر اسمه ـ فهو أمر يخلط ما بين الضحك والاستغراب، فقد بدأت قصته حين كان عند إحدى محطات البنزين، وفي تلك الأثناء اندلعت مشاجرة عنيفة بين اثنين من الشباب، ففزع من فوره لفضها، لكن عددًا من السيارات وصلت في ذلك الوقت، وشارك سائقوها وراكبوها في المشاجرة التي توسعت دائرتها، وتطورت الأمور إلى استخدام أحد أطرافها سلاحًا ناريًّا، وعلى الفور تفرق الجميع، ووجد هذا الشاب نفسه في سيارة أحد المتشاجرين التي غاردت مسرعة وفيها مجموعة من رفاق المتشاجر الذين حضروا ليفزعوا له، وبعد أن قطعت السيارة مسافة نصف ساعة، وهدأ روع راكبيها، التفت إليه أحدهم وسأله عن هويته، وكيف جاء معهم وهم لا يعرفوه، فأبلغهم أنه كان عند المحطة، وأنه مجرد فاعل خير تدخل لفض المشاجرة، وعندما حدث إطلاق النار ولشدة خوفه ركب معهم على اعتبار أن سيارتهم كان الأقرب إليه، وأن سيارته ما زالت عند المحطة، فلم يكن منهم إلا أن أوقفوا سيارتهم وأخرجوه منها، واضطر لقطع مسافة نصف الساعة تلك عائدًا للوصول إلى مركبته، وبعد هذا الموقف أخذ عهدًا على نفسه أنه لن يفزع لأي شخص بعد ذلك.

وظيفتك عليا

يشير محمد عبدالله وهو موظف في إحدى المؤسسات إلى أنه كان يعاني بشدة من ضغط العمل في مؤسسته، وأنه في كل مرة كان يقابل فيها واحدًا من أصدقائه كان هذا الأخير يوهمه بأنه «سيفزع» له بوظيفة حكومية يجد بها الراحة والأمان الوظيفي، ويقول «فزعته أوهمتني أنه سيعوضني بما هو أفضل من المؤسسة التي أعمل فيها، مما دفعني للاستقالة، وبعد أن فعلت وتوجهت إليه طالبًا أن يفي بفزعته وأن يوظفني حيث ادعى، فوجئت أن الفزعات تورط أصحابها وتورط الآخرين، حيث اكتفى هذا الصديق بالتأكيد على أنه لم يتمكن من إيجاد عمل لي، وبذلك خسرت عملي نتيجة فزعة غير موفقة».

تقول دار الإفتاء الأردنية في مسألة الوعد الذي يترتب عليه الإضرار بالموعود أن «الأصل الشرعي أن الوعد المجرد لا يلزم الوفاء به، ولكن إن اقترن بالتزام أو كان معلقًا على سبب لزم الوفاء به».

وقد صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرار رقم (2/ 5، 3/ 5) وفيه: «الوعد - وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد - يكون ملزمًا للواعد إلا لعذر. وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.

فإن نكل الواعد حينئذ عن وعده، وتضرر الموعود بسبب ذلك، لزم الواعد أن يدفع مقدار الضرر الفعلي الذي تكبده الموعود؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضَرَرَ وَلاضِرَارَ).

ضمانات لحفظ الحقوق

يؤكد المستشار القانوني عبدالرحمن الحربي أنه من الناحية القانونية لا بد لمن يبادر للفزعة لآخر من أن يحصل على ضمانات قانونية تجنبه تبعات فزعته، ويبين «إذا بادر شخص ما لإعطاء مبلغ مالي لأخر يمر في أزمة مالية، فإن فزعته يجب ألا تمنعه من الحصول على ضمانات تكفل رد حقه إليه، كأن يحرص على أخذ تعهد مكتوب وبحضور وتوقيع شهود يشهدون أنه أقرض المفزوع له المبلغ المالي، كذلك في حالة تبرع البعض بأن يفزع للآخر بكفالة بدأت للأسف تُستغل من قبل كثيرين بطريقة سيئة حيث يقع الكفيل الفازع ضحية لها، نتيجة لفزعته التي فرضتها عليه إما القرابة أو الصداقة، وبمجرد أن يكفل الآخر، يبادر المكفول إلى المماطلة في الدفع، ويدخل الكفيل في مسائل قانونية ويتورط بكثير من المشاكل التي لم يكن يخطر لها أنها قد تحدث، وفي شتى الأحوال لا بد من ضمانات تحفظ حقوق الفازع بطريقة يحددها بنفسه، سواء كانت بأخذ ضمانات لا تورطه في مسائل قانونية، أو معرفة نوعية الفزعة التي هو بصددها، أو ماهية الخدمة التي يقدمها للآخرين، ولا بد أن يكون الاحتكام هنا للعقل قبل أن تورطه عاطفته وتضعه تحت طائلة مسائل لا علاقة له فيها.

ركيزة اجتماعية

ترى الإخصائية النفسية نجلاء البريثن أن الفزعة من الأمور التي تعارف عليها مجتمعنا، وتعد من أهم الركائز التي يعتمد عليها أفراده في المساعدة سواء كانت مادية أو معنوية، وقالت «كانت الفزعة في حقبة مضت من الزمن هي المعيار أو الحد الفاصل الذي يعكس شهامة الفرد أو القبيلة، وقد كانت في ذلك الوقت من الأمور المتعارف عليها، وهي خصلة جميلة حث عليها الدين الإسلامي من باب التعاضد والتكاتف، ولكن من خلال ما نسمع ونرى، ومن واقع أن بعض الفزعات تكون في غير مكانها وتصبح وبالا على صاحبها، لذلك لا بد من عدم الخلط بين الفزعة الإيجابية والفزعة السلبية التي قد تدمر الشخص، لذلك لا بد أن نعرف الشخص جيدًا الذي يستفزع بنا؟، وما هي قضيته؟، وهل بالفعل يستحق الفزعة أم لا؟، هناك كثير من الأسر تضع صناديق خاصة بالعائلة من باب الفزعة لأفرادها، ولكن من رأيي أنه لا بد أن يكون هناك معايير ودراسة لنوع الفزعات، فعلى سبل المثال فزعة الزواج ومساعدة الرجل حتى يكمل نصف دينه أمر محمود، وعلى هذا المنوال نقيس، أما أن نفزع في أمور قد تصل إلى بنا إلى دهاليز السجون فهذا أمر غير محمود، والمؤمن كيّس فطن».

الفزعة

ـ خصلة محمودة تعني المبادرة والمسارعة للاستجابة للاستغاثة.

ـ تتخذ أشكالا عدة، منها الفزعة لإنقاذ الأرواح، وفك الأسر وسداد الدين.

ـ ومنها كفالة مدين، أو مساعدة زميل في عمل، أو تدخل لفض مشاجرة.

ـ تعد قيمة نبيلة متوارثة منذ القدم.

ـ شهدت تحولات خطيرة في الآونة الأخيرة.

ـ باتت المفزوع له يورط الفازع في أحيان كثيرة.

أسئلة يجب طرحها قبل الفزعة لشخص.

ـ معرفة جيدة بالشخص الذي يستفزع بنا؟

ـ ما هي قضيته؟

ـ هل بالفعل يستحق الفزعة أم لا؟

ـ هل سبق أن فزع له أحدهم، وماذا كانت النتيجة.