بما أن الفتوى هي مرجعية المسلمين التي يعتمدون عليها في أمورهم الحياتية والدينية كان لا بد من إنشاء جهة مختصة يسند لها هذا الأمر، والذي انشأت لأجله المملكة هيئة كبار العلماء في عام 1971 للإشراف على فتاوى المسلمين واستفساراتهم، وترتبط هذه الهيئة ارتباطًا مباشرًا بولي أمر الدولة الذي يعتمد الفتوى والأحكام بعد ذلك حسب رؤيته بما ينفع المصلحة العامة للجميع.

وحتى تصدر أي فتوى لا بد أن تستند على أربعة مصادر أساسية: القرآن، والسنة، والاجتهاد، والقياس.

إلا أنه قد يحدث استثناء يعطل جميع تلك المصادر وهذا ماحدث في عام الرمادة بعدما انتشر الجوع وكثر المحتاجين والسائلين في طلب ما يسد جوعهم من طعام. فظهرت حينها السرقة.

ما جعل ولي الأمر آنذاك الخليفة عمر بن الخطاب يعطل حد السرقة بالرغم من وجود قوله تعالى: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» وبالرغم من وجود حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» إلا أن ولي الأمر نظر للأمر بعين الإنسانية التي تحكمها غريزة البقاء والتي من الصعب أن تكون محتكمة لأمر القضاء. ما حدث من تعطيل لحد السرقة في عام الرمادة أثبت أن الفتوى تتطور بتغير الزمان والذي صادف في هذه الحالة أنها أتت بعد وفاة الرسول بـ 6 أعوام فقط، وتتأثر كذلك بظروف المكان المتغيرة وغير الثابتة، ولا يعني ذلك أن في تطورها إسقاطا أو تمييعا للحدود والأحكام بقدر ما فيها من تيسير شؤون المسلمين وإحقاق المزيد من العدالة. وبعكس ما في تجميدها من تشدد أتى بسد ذرائع المجتمع، وأحكام موحدة برأي الإجماع أو أحكام قيست بمباركة الهوى فإن حققت العدل، ما استطاعت أن تحقق العدالة..

من المنطقي أن تتطور الفتوى بعد مرور أكثر من ١٤٠٠ عام منذ نشأت هذا التشريع، بل من الصعب على المسلم أن يحتكم بفتوى أتت في زمن ينتمي له دينيًا ولا ينتمي لظروفه مكانيًا وزمانيًا، فتنشأ بذلك فجوة لا يشعر بها المفتي بقدر ما يعاني منها المستفتي.

والكارثة الأعظم التي حرفت مسار الفتوى الصحيحة هي الاحتكام لمفتٍ كون اسمه جماهيرية، فأصبح اسمه يتردد كأنه المشرع من السماء وليس للشريعة بمصادرها فضلًا في ذلك، فيأتي المستفتي بعد ذلك مروجًا لأسماء مفتين أباحوا له، وأسماء مفتين أجازوا له، وآخرين يمتدحون اسم مفتٍ متساهل وغير متشدد، في حالةٍ أشبه ما تكون بمضاربات سوق الأسهم خاصة مع دخول مفتين برامج التواصل الذين استغلوا التقنية لذلك أسوأ استغلال، مما شكل حالة من تضخم الفتوى سبقها تذبذب وارتفاع وقاع ورافقها أيضًا تطرف غير مسبوق، فالكل أصبح يفتي في حالة تشبه إلى حد ما - ما حدث في بداية الثمانينات في سوق المناخ بالكويت من مساهمات وهمية وشركات على وزن (استثمارية بيض الخفقع) و (عقارية فرخ الخفنقع).

هذا بالضبط ما آلت اليه الفتوى مع انحرافها عن مسارها الصحيح في التطور حتى وصلنا إلى حكم إرضاع الكبير وحكم شراء الألعاب وحكم ارتداء الستيان النسائي ووجوب قتل الكفار وصولا إلى جواز قتل منسوبي الأمن وما تلاها من انتهاكات وتفجيرات.

وفي زخم هذه التطورات المنحرفة والشاذة عن مسارها الزمني والمكاني الصحيح، البعض من عامة الناس حينما رأى أن الفتوى دخلتها أسماء وهمية وحسابات إلكترونية مشبوهة قرر أن يحتكم لأحكام وضعت قبل ١٤٠٠ عام ضاربًا بعرض الحائط كل اجتهادٍ وقياس قامت به جهات الإفتاء الرسمية.

ففي أحد برامج التواصل تحدث رجل معبرًا عن رأيه في كيان الأسرة، ليفاجئنا بكارثةٍ أعظم فقال: إن الأسرة دولة موازية لها أحكامها وقوانينها وقياسها وإجماعها المختلف عن قوانين الدولة، ولتوضيح سياسته التشريعية الأسرية أكثر قال: يجب على الابن تطليق زوجته إذا أمره أحد الوالدين، والدليل على ذلك قصة ابن عمر رضي الله عنهما، فيقول: «كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها. وكان سبب ذلك هو خوف عمر بن الخطاب من أن تلهيه عن طاعة الرسول» فكانت هذه القصة هي ما وجده صاحب الأسرة الموازية في مصادر التشريع بحسب اجتهاده، بعد أن ضم القصة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»

رد عليه أحد المستمعين: ولماذا لم تنظر لحديث «تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسَبِها، ولجمالها، ولدِينها، فاظفَرْ بذات الدين تربت يداك» ففيه إثبات أن الرسول لم يكن ليقول شيئًا فيفتي بضده ؟!

قال له رب الأسرة الموازية: والرسول أيضًا قال: «ألا أنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟»- قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: «الإشراكُ بالله، وعقوق الوالدين، ألاَ وشهادة الزور، وقول الزور» واستدرك بحديثه قائلًا إن عدم طاعة الابن لوالديه في تنفيذ الطلاق وجه من أوجه العقوق وأنا بذلك استفتيت قلبي أيضًا.

كل تلك الفوضى ما كانت لتحدث لولا وجود تقنية لم تستغل بالشكل الجيد أنشأت سوقًا سوداء للفتوى، وفئة استباحت التشكيك في مصداقية كل ما تنظمه وتشرف عليه الدولة، لمصالح ما لبثت السنين إلا وكشفتها بعد أن استغلت السذج للتجنيد، والتفجير، والاختلاس، والرشوة.

ومع تطور الزمن وقدوم رؤية 2030 وترقي التعاملات الحياتية إلى معاملات دولية وحقوق إنسانية وامتزاج القانون بالفتوى وترقية بعض الأحكام إلى قوانين مدنية ثابتة، بدأ الوضع يمضي إلى المزيد من الانسجام والاستقرار، إلا مع تلك الفئة التي تقول إن الأسرة شأنها شأن الدولة لها ما لها وعليها ما ترى!

فإذا سمعنا مستقبلًا عن مناوشات بين طلائع جارين أو قريبين يتعارض بينهما حكم ما؛ فما ذلك إلا نتيجة لوجود سلطة داخلية لا تسمح لأفرادها بالاحتكام لقانون الدولة، مستغلة بذلك تكوين منازل من الحكم الذاتي بنيت بفتاوى من كتب صفراء ومعرفات وهمية.