مما لا شك فيه أن الأطفال هم الثروة الحقيقية لمستقبل أي شعب من الشعوب، وبالتالي فهم المعبر الحقيقي للتقدم. وبناء الأساس السليم لشخصية الطفل، وإعداده للمستقبل، من أهم سبل النهوض بالشعوب، وبشكل خاص إعداد أطفال المستقبل على ضوء زيادة المنافسة، وسيادة محكات الجودة والتميز في الألفية الثالثة، لأننا في زمن سريع التغير، يتسم بالمنافسة الحادة، وهذا يبرز أهمية التعليم، وإعادة تشكيل مناهجه، حتى تنسجم مع الاحتياجات المجتمعية، وتتوافق مع المتغيرات التقنية والإعلامية، مما يستلزم وجوده بقوة العلم والتكنولوجيا، وفي صلب العولمة، وهي مجموعة العوامل التي تؤدي إلى إلغاء «الإقليمية».

وفي هذا الصدد، فإن الفاروق عمر بن الخطاب قد أرسى مبدأ مهما من المبادئ التربوية ذات الأبعاد المستقبلية، عندما قال: «ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم»، فهي نصيحة تمثل نظرة مستقبلية، تضع في حساباتها واعتباراتها المتغيرات المقبلة بأبعادها المختلفة وتقلباتها المستمرة، ولا ننسى مقولة ونستون تشرشل: «إن إمبراطوريات المستقبل سوف تكون إمبراطوريات العقل».

تستدعي هذه التغيرات وضع صيغ وآليات تعليمية جديدة، وإدراك ما هو مطلوب في العالم الجديد، بينما نحن نتمسك ببعض المهارات والقيم الباقية التي ربما تكون معرضة للخطر.

وتكمن أهمية هذه المرحلة في أنها من أهم المراحل التي يمر بها الفرد في حياته، إذ تعتبر سنوات حاسمة في تشكيل الملامح الأساسية لشخصية الطفل، وتظهر فيه القدرات، وترسم الخطوط الكبرى لما سيكون عليه الطفل في المستقبل، ابتداءً بتأثره بالعوامل المحيطة، حيث يكتسب ألوانا من المفاهيم والقيم والمهارات والمعارف، ويتعلم أساليب التفكير ومبادئ السلوك، التى تبقى آثارها في تكوينه مدى الحياة. ونظرا لأهمية هذه المرحلة، وتأثيرها في تكوين شخصية الطفل بكل جوانبها، العقلية والجسمية الاجتماعية والانفعالية والخلقية. ولما كشفت عنه العديد من الدراسات من أن أي حرمان أو إهمال فيها تترتب عليه آثار بعيدة المدى في نموه النفسي، ولما توصلت إليه العديد من الدراسات العربية والأجنبية من ضرورة بذل الجهود في التنمية المبكرة للأطفال، كان لابد من الاهتمام بالتعليم وتطويره وتجويده في هذه المرحلة.

التعليم، ضمنيا وحتميا، قضية أهداف وقيم إنسانية، وليس بالإمكان تطوير أي نظام تعليمي ما لم تتوافر فيه المعرفة والمهارات التي يدرك قيمتها، ونوع الأفراد الذين يأمل المرء في أنهم سوف يظهرون في آخر الأمر.

والتعليم الرسمي الراهن لا يزال يعد طلابا من أجل عالم الماضي بصورة رئيسية، بدلا من إعدادهم من أجل عوالم ممكنة للمستقبل، لذا لا بد من تغيير وإعادة وجهات النظر فيما يقدم، سواء كان للأطفال أو الطلاب أو المعلمين في كليات التربية وأقسام التعليم قبل المدرسي، بصورة خاصة، بحيث تكون المخرجات التعليمية لهذه الكليات مواكبة للتطورات العالمية المتسارعة، ومستوفية متطلبات الجودة العالمية فيما يتعلق بالمناهج المقدمة، وإستراتيجيات التدريس الحديثة، والاستفادة من التطورات التقنية في إتاحة المعلومات للطالب، من فصول افتراضية والمدارس المحوسبة وغيرها، من خلال خدمات الحوسبة السحابية، لإنتاج عقول أكثر أهميةً في المستقبل، ومهيأةً تماما للتعامل مع ما هو متوقع، ومع ما ليس بالإمكان توقعه.

من أمثلة ذلك تبنى فكرة العالم هوارد جاردنر في مؤلفه «تغيير العقول»، حيث أورد خمسة أنواع من العقول من أجل المستقبل:

العقل المتخصص، والعقل التركيبي، والعقل الإبداعي، والعقل المحترم، والعقل الأخلاقي، لما لهذه المحاور الخمسة من أهمية بالغة في تكوين عقل المستقبل، في ظل التحديات التي تواجهه.

ويمكن تلخيص أهمية العقول الخمسة السابقة بما يلي:

1- إن الأشخاص الذين لا يمتلكون اختصاصا واحدا أو أكثر لن يكونوا قادرين على النجاح في أي مكان عمل له متطلباته، وسوف يقتصر عملهم على مهام وضيعة.

2- إن الأشخاص الذين لا يمتلكون قدرات تركيبية سوف تربكهم المعلومة، وسيكونون غير قادرين على اتخاذ قرارات حكيمة بشأن قضايا شخصية أو مهنية.

3- إن الأشخاص الذين لا يمتلكون قدرات إبداعية سوف تتم الاستعاضة عنهم بأجهزة كمبيوتر، وسوف يعملون على إقصاء أولئك الذين يمتلكون بالفعل الشرارة الإبداعية.

4- إن الأشخاص الذين لا يمتلكون الاحترام لن يكونوا جديرين بالاحترام من قِبل الآخرين، وسوف يعملون على تسميم أجواء مكان العمل وعامة الناس.

5- إن الأشخاص الذين لا يمتلكون الأخلاق سوف يحصدون عالما خاليا من العمال الشرفاء، والمواطنين الذين يتحملون المسؤولية. فالعقل المتخصص يتقن طريقة واحدة من التفكير على الأقل، ويعرف كيف يعمل بإطراد على مدى الزمن من أجل تحسين المهارات والمدارك، والمرء دون تخصص واحد على الأقل محكوم عليه أن يسير باتجاه تبنى موقف شخص آخر.

بينما العقل التركيبي يقدر مسبقا الكيفية المثلى لتنفيذ المهام المستقبلية، ويبدأ في تطوير رؤى جديد، وينقلها للآخرين.

ولإنتاج شخصيات قيادية، لا بد من عقول مبدعة، قادرة على تحقيق تحولات مقنعة، وتغيير الأفكار والسلوكيات الخاصة بالأشخاص. أما العقل المحترم، فيكون متجاوبا بشكل بناء مع الاختلافات بين الأفراد وبين الجماعات، وساعيا إلى أن يفهم ويعمل مع أولئك الذين هم مختلفون.

أما العقل الأخلاقي، فهو يدعم دور المرء كمواطن، والتحرك بالتوافق مع هذه المفاهيم، والعمل جاهدا باتجاه العمل الصالح والمواطنية الصالحة. ولأهمية إنتاج العقول السالفة الذكر لا بد من مناهج وإستراتيجيات تدريس بما يتناسب مع التغيرات المتسارعة للعلوم.

وبعد طرح هذه العقول وأهميتها هنا يتوجب السؤال: هل مؤسسات رياض الأطفال مؤهلة للقيام بإنتاج هذه العقول؟ هل معلمات رياض الأطفال يمتلكن كفايات تعليمية تؤهلهن لإعداد عقول المستقبل؟ هل دور الأسرة مفعل في تنمية قدرات الأطفال وإعدادهم للمستقبل؟. على الرغم من احتفاظ الأسرة في مجتمعنا بعدد لا بأس به من وظائفها، على الأقل فيما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية للأبناء بمختلف جوانبها، فإنه من الملاحظ تراجع أو تقلص دور الأسر في تنشئة الأبناء، وابتعادهم عنها أكثر في السنوات السابقة، وبات معظم الأطفال يتلقون القيم وعاداتهم من وسائل الإعلام والتقنيات الحديثة بسبب انشغال الوالدين، وعدم تفرغهما للأبناء، سعيا وراء زيادة موارد دخل الأسرة.

خلاصة القول.. إنه لإنتاج عقول للمستقبل يمكن أن تواكب متغيرات المجتمع الجديد، لا بد من الآتي:

1- السعي لإيجاد كفاءات عالية متفاعلة مع قضايا المجتمع المتعلقة بالطفل، تمتلك القدرة على مواجهة المشكلات المتعلقة بالطفل، وتحليل المواقف وحلها بطرق علمية منبثقة من ثوابت وقيم الدين الإسلامي، ومواكبة لأحدث التطورات العالمية، وتوفير الكفايات التعليمية بكل أبعادها (الأكاديمية - التربوية - الأخلاقية - السلوكية) لمعلمات التعليم قبل المدرسي.

2- توظيف التقنية الحديثة في التنمية المهنية لمعلمات رياض الأطفال، والتدريب المستمر عبر البرامج الإلكترونية الحديثة وأنظمة الفيديو كونفرانس مثل برامج Mooc وBlackboardk، وذلك لحل مشكلة تفرغ معلمات رياض الأطفال للدورات التدريبية.

3- تطبيق إستراتيجيات حديثة لتعليم الأطفال، واعتماد إستراتيجيات التدريس المتمركزة حول الطفل مثل إستراتيجية حل المشكلات، والتعلم من خلال المواقف، والتعلم المرتكز على مهام حقيقية، والتعلم الافتراضي من خلال الفصول الافتراضية.