سجلت الدروب العتيقة لمداخل مدينة «أبها» من جهاتها الرئيسة الأربع، تاريخا من العلاقات الإنسانية الوثيقة والمنافع المتبادلة، يوم كانت الدواب الوسيلة الوحيدة للناس في نقل منتجاتهم الزراعية والبضائع والصناعات التقليدية.

وتجلى ذكاء إنسان هذه الأرض في مهارة تخطيط هذه الدروب وضبط اتجاهاتها، بحيث تخترق أحياء المدينة وضفاف الواديين وحواف المزارع دون الإضرار بالبيئة والبيوت والممتلكات، وبقيت حقبة من الزمن لم تتبدل معالمها، يحميها العرف الاجتماعي والشيم.

كما روعي في تلك الدروب سلامة القادمين من القرى والأسواق البعيدة، وهم يتجهون نحو «سوق الثلاثاء» الأسبوعي الكبير، وأطلق الناس عليها «الدروب الخضراء»، لأن ظلال الأشجار والبيوت ترافق المتسوقين في سيرهم إلى داخل المدينة.

وكشواهد حضارية، وملامح إنسانية تبعث على الاطمئنان، توزعت في مواقع إستراتيجية على امتداد تلك الدروب، آبار مشهورة بعذوبة وغزارة مياهها، وبقيت إلى منتصف السبعينيات الميلادية تمد السكان والزوار بالمياه، يسقون بها مزارعهم وأنعامهم.

وحين يتتبع الإنسان أماكنها يقف احتراما وتقديرا لتلك العقول النيرة التي خططت ونفذت حفر تلك الآبار، مستعينة بالله الكريم، ثم بفراسة «المسمعين»، وهم أناس منحهم الله معرفة عروق المياه تحت الأرض واتجاهاتها وغزارتها، وكانوا يحسبون عمق البئر بقامة الرجل، فبعض الآبار تبدأ من أربع قامات وأكثر.

ومن أشهر تلك الآبار في أبها «نعمان - عتود - ضباعة - مشيع - المفتاحة - النصب - الصفيح - الوادي الأعلى - اليمانية - القرى - الخشع - القابل»، وكان الوصول إليها يتم دون عناء، ويمكن مشاهدتها من مكان بعيد، لوجود عوارض خشبية مرتفعة، مثبتة عليها البكرة والحبال والدلاء والغرب، بينما يُسمع أنين السواقي وقد امتزج بألحان الطبيعة.

وفي هذه الأيام، يسير مشروع «المسارات السياحية» بخطى حثيثة، ليعيد إلى الأذهان الماضي الجميل، بينما تجسد جمال المكان والزمان في حيي «البسطة» و«القابل» كمنتج سياحي، يفوح منه عبق التاريخ. وأرى أن يواكب هذه الأعمال الرائدة تنفيذ مشروع إعادة تأهيل مياه الآبار داخل المدينة، وتنظيفها وتعميقها، حتى الوصول إلى منابعها الصافية الطبيعية، ومن ثم تركيب الأدوات القديمة التي كانت تُسهم في جلب المياه مع تسويرها ومراقبتها.

وبهذا العمل، يكتمل مشهد «المسارات السياحية» كنقاط جذب مهمة لزوار المنطقة. ربما نرى هذه الآبار وقد عادت مرة أخرى تنبض بالحياة لأغلى شىء في الوجود، وهو الماء.