وجدت هذه القطعة لمدمن تفكير سابق أردت اليوم أن أشارككم بها، ففيها من المغزى العميق لمن يريد حقًا أن يغوص إلى الأعماق و... يفكر، بالطبع أضفت إليها لمساتي كالعادة حتى يستطيع القراء الأعزاء التفاعل معها، كل حسب حالته النفسية، حجم مخزون الخبرات، ومستوى المعرفة لديه.

حدث يوم أنني كنت في حفلة وفجأة وكأن إلهام ما نزل علي وبدأت أفكر! وبالرغم من الضجيج الذي كان حولي من الأصوات المتداخلة وإيقاعات الموسيقى المزعجة، وجدت نفسي أتنقل من فكرة إلى فكرة، وعندها أكتشف أنني أكثر من مجرد مفكر اجتماعي! بدأ الأمر كأسلوب أتبعه من أجل الاسترخاء، هذا ما حاولت أن أقنع نفسي به في بادئ الأمر، لكنني أدركت فيما بعد أن ذلك لم يكن صحيحًا أبدًا، فالتفكير أصبح يشغل جُل وقتي بحيث أصبح الأكثر أهمية بالنسبة لي، إلى أن تحولت إلى مفكر منتظم على مدار ساعات اليوم والليل أيضًا.

وهنا بدأت الأمور تفسد في المنزل، ففي إحدى الأمسيات أطفأت الرائي، وسألت زوجتي وأنا أسحب نفسًا عميقًا من «غليوني» الذي بدأت أستخدمه حتى يكتمل مظهري كرجل مثقف ومفكر، سألت: «ما معنى الحياة؟».... أمضت تلك الليلة في منزل والدتها!. الأمر لم ينته هنا، وبما أنني أصبحت مفكرًا لا بد أن ينتقل ذلك إلى بيئة عملي، فبدأت أفكر خلال ساعات العمل، كنت أعرف أن التفكير والوظيفة لا يمتزجان، ولكنني لم أستطيع أن أتمالك نفسي لأتوقف عن التفكير، وبدأت في تجنب الزملاء في وقت الراحة حتى أتمكن من قراءة ثورو وموير وكونفوشيوس وكامو وكافكا، كنت أعود إلى مكتبي وأنا أشعر بالدوار والتشتت وأسأل ذاتي: «حقًّا ما هو بالضبط دورنا هنا؟».

في أحد الأيام اتصل بي المدير وطلب أن أحضر إلى مكتبه، قال لي عندما وقفت أمامه: «اسمعني جيدًا، أنا معجب بك، ولكن يؤلمني أن أقول لك أن تفكيرك أصبح مشكلة حقيقة، وإذا لم تتوقف عن التفكير في الوظيفة، فسيصبح لزامًا عليك أن تبحث عن وظيفة أخرى!»، هنا اختليت بنفسي، فما قاله لي أعطاني الكثير لأفكر به! عدت يومها للمنزل مبكرًا، وعندما التقيت زوجتي في المطبخ قلت معترفًا: «عزيزتي، كنت أفكر!»، أجابت وهي تحاول أن تحبس الأدمع وتمنعها من أن تنهمر على وجنتيها: «أعلم أنك كنت تفكر، وأريد الطلاق!»، «ولكن... عزيزتي، بالتأكيد الأمر ليس بهذه الخطورة!»، أجبتها مستغربًا، لكنها قالت وهي تزم شفتيها بغضب: «بل الأمر خطير و...جدًا!» وأضافت: «هل تعتقد أن أساتذة الجامعات يكسبون ما يكفي من الدخل المادي؟ لذلك إذا واصلت التفكير، فلن يكون لدينا أيٌّ منه!». هنا انتفضت وصرخت معترضًا: «هذا قياس خاطئ!، فما كان منها إلا أن انفجرت في نوبة من أدمع الغضب، ولكني حقيقةً، لم أكن في حالة مزاجية للتعامل مع الدراما العاطفية!. «أنا ذاهب إلى المكتبة» قلت ذلك وأنا في طريقي إلى باب المنزل.

توجهت إلى المكتبة، وأنا في مزاج فكري يتماهى مع جون لوك، صعدت بسعادة درجات المدخل حتى وصلت إلى الباب الرئيس، لكني لم أجد أمامي سوى الأبواب الزجاجية المغلقة!، حاولت أن أفتحها، ولكن عبثًا، لقد كانت المكتبة مقفلة لانتهاء ساعات الدوام!.

دخلت في نوبة من الإحباط والتذمر، فلقد كنت في جوع لقراءة أميرسون، هنا شعرت وكأن شيئًا ما، يريدني أن أرفع نظري حتى أرى الملصق الذي على الزجاج، «أيها الصديق، هل التفكير الثقيل يفسد حياتك؟».

ربما مر عليكم مثل هذا الملصق الذي يخاطب المدمنين، والذي عادة ما يُذيّل بمعلومات عن كيفية الاتصال بجمعية تعالج الإدمان عن طريق الحوار الجماعي، وتحمي بالوقت نفسه الهوية وتحافظ على خصوصية العضو، المهم أن الملصق كان بالتصميم والخط نفسه، ولكن الاسم ظهر مختلفًا؛ «المفكرون المجهولون».

واليوم أنا مفكر سابق، لقد تعافيت!، لم يكن الأمر سهلًا، فلقد احتجت إلى الكثير من الجلسات التي حرصت على ألاّ تفوتني أي جلسة منها، وفي كل اجتماع كان يُعرض علينا شريط فيديو غير تعليمي، على سبيل المثال في الأسبوع الماضي كان «مغامرات لولو وطبّوش»، وبعد المشاهدة نجتمع عادة على شكل دائرة، وكل منا يأخذ مقعد المتحدث ويشارك الآخرين خبراته حول كيف استطاع تجنب التفكير!.

واليوم حياتي باتت في أحسن حال، فما زال لدي وظيفة، والأمور في المنزل أصبحت أفضل بكثير، لأني بمجرد أن توقفت عن التفكير، بدأت أرى الحياة أسهل، على ما يبدو أن طريق الشفاء قد اكتمل تقريبًا بالنسبة لي، حتى أنني اتخذت الخطوة الأخيرة.... اشتركت بكل الصحف الإلكترونية «الصفراء»، ومن ثم انضممت لجميع وسائل التواصل الاجتماعي وتحولت إلى أحد مشاهير «التيك توك»!.