الغناء.. كلامًا ولحنًا وأداء، ضرب من ضروب اللهو، فما حدود الإباحة فيه؟ دار الحديث عن هذا الغناء في الموروث الإسلامي- سنة شريفة... وفقهًا... وفكرًا، تحت مصطلحات عدة منها: مصطلح (اللهو)، ومصطلح (السمّاع).

وقد يتبادر إلى الذهن المعاصر أن استخدام مصطلح (اللهو) في وصف الغناء إنما يحمل معاني سلبية، تشي بالكراهة أو التحريم للغناء، ولما كان هذا الذي يتبادر إلى الذهن المعاصر غير وارد ولا صحيح، كان علينا أن نبادر بضبط مضمون مصطلح (اللهو)، الذي صنّفت تحته- في كتب السنة- الأحاديث التي وردت في موضوع الغناء، والذي استخدم كذلك في القرآن الكريم.

فاللهو- في مصطلح العربية- ليس بالضرورة ما يلهي عن الطيبات والعبادات والخيرات، وإنما هو كل ما يشتغل به الإنسان وينشغل به فيلهيه ويتلهى به عن سواه، فالاشتغال بالطيبات لهو عن الخبائث، والعكس صحيح، واللهو: ما يأنس به الإنسان ويعجب به، لكن استعمال هذا اللفظ غلب على ما يطرب النفس ويؤنسها، ويروّح عنها، وقد يُكنى باللهو عن الجماع، والملاهي: هي آلات اللهو، أي مطلق الوسائل التي تُحدث الأنس واللذة للإنسان، فتشغله عن حدوثها عما سواها.

وكذلك الحال في القرآن الكريم، يرد الحديث عن اللهو في سياق المناشط الإنسانية المباحة، إذا هو لم يله الإنسان عن الفرائض والواجبات والضرورات، فتتحدث الآيات عن فرائض، وضرورات، ومباحات- عن صلاة الجمعة، والبيع، والانتشار في الأرض، والابتغاء من فضل الله، وذكر الله، والتجارة، واللهو- داعية المؤمنين إلى وضع كل منها في مقامها وتوقيتها، وناعية عليهم الخلل الذي يضع الأمر في غير موضعه، أو يصرف عن الواجب إلى المباح .

فالبيع ليس حراما لكن الحرام أن يلهينا ويشغلنا عن صلاة الجمعة. الإنسان لو لهته وشغلته الصلاة- غير المفروضة- مثلا كل الوقت عن الضرورات والمباحات لعُدّ ذلك غلوا في الدين، وكذلك الحال لو لهته الضرورات عن الفرائض، أو شغلته المباحات عن الواجبات والضرورات.

النظرة الإسلامية للهو- الغناء- تضعه في خانة المباحات، المباحات لذاتها، والتي تعرض لها- بسبب ما يلحقها ويقترن بها وينتج عنها- الأحكام الشرعية التي تعرض للمباحات، فقد يبقى الغناء على الإباحة- التي هي الأصل- وقد يعرض له ما يجعله واجبًا، أو مندوبًا، أو مكروهًا، أو حرامًا، مثله في ذلك مثل سائر المباحات- ومنها الأكل والشرب- الأصل فيها الإباحة، وقد يعرض لها ما يجعلها واجبة، أو مندوبة، أو مكروهة، أو حراما.

وإذا كان الغناء، في جوهره: صوتًا جميلًا تصاحبه ألحان وأنغام مؤتلفة تزيده جمالا، فلقد عرض الفكر الإسلامي لهذا الغناء باعتباره فطرة إنسانية تحاكي بها الصنعة الإنسانية الخلقة الإلهية التي أبدعها الله وخلقها في الطيور والأشجار، فالصوت الجميل الصادر من حنجرة الإنسان هو محاكاة للأصوات الجميلة الصادرة من حناجر البلبل والعندليب والكروان، ومعزوفات الأوتار التي تثمر الألحان المؤتلفة والجميلة هي محاكاة الصنعة الإنسانية لما تعزفه الأشجار والأغصان والأوراق في الحدائق الغناء عندما تهب عليها الرياح والنسمات، وإذا كان غير وارد ولا جائز ولا معقول تحريم الأصوات الجميلة إذا جاءت من حناجـر الطـيور، فلا منطق يحرّمها إذا صدرت من حنجرة الإنسان، من غير المنطقي ولا المعقول تحريم الأصوات لأنها جميلة غير منكرة، أو الأنغام لأنها مؤتلفة غير متخالفة. بهذه النظرة الفطرية، نظر العقل المسلم- والإسلام دين الفطرة- إلى الغناء والألحان، وجاءت كلمات حجة الإسلام أبوحامد الغزالي (1058-1111م)، معبّرة عن هذا المنطق الفطري عندما قال:(فالأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وُضعت المزامير على أصوات الحناجر، وهو تشبيه للصنعة بالخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها، فمنه تعلّم الصناع، وبه قصدوا الاقتداء، فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة موزونة، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب، وسائر الطيور، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة، ولا بين جماد وحيوان، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي، كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره).

ويروي النسائي- عن السائب بن يزيد- أن امرأة جاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال لعائشة: يا عائشة، أتعرفين هذه؟ قلت: لا يا نبي الله، قال: قيْنة بني فلان، تحبين تغنيك؟ فغنّتها.

وإذا كانت القينة هي الجارية المغنية، فنحن أمام مغنية تحترف الغناء لبني فلان- أي للرجال والنساء- يعرض الرسول على عائشة أن تسمع غناءها، فتغني لها، في حضرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ولقد مضت هذه السنة- إباحة الغناء، أو ندبه- جارية مرعيّة في مجتمع الصدر الأول، فيروي النسائي عن عامر بن سعد يقول: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود الأنصاري، في عرس، وإذا جوار يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن أهل بدر، يفْعلُ هذا عندكما؟! فقالا: اجلس إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب (فقد رُخّص لنا في اللهو عند العرس). فالأصل في الغناء: الحل والإباحة،إنه كلام ولحن وأداء، يحاكي به الإنسان الأصوات الجميلة والأنغام المؤتلفة العذبة التي أفاضها الجمال الإلهي في بديع المخلوقات.

1999*

* أكاديمي باحث في التراث الإسلامي «1931 - 2020».