استياء كبير يشعر به المرء وهو يشاهد شاشات الفضائيات حيث نوعية من البرامج التي تعرض معاناة لفئات متعففة من المجتمع، ويسهب مقدموها في شرح التفاصيل الدقيقة، للدرجة التي يشعر فيها أولئك الضعفاء بالخجل، ويدخل بعضهم في نوبات بكاء وتشنج، أملًا في استدرار عطف المشاهدين وتفاعلهم.

الغاية من عرض هذه النوعية التي تحظى بمتابعة شريحة كبيرة من أفراد المجتمع ربما تكون أحيانًا سامية ونبيلة، وتهدف لاستغلال نسبة الخيرية المرتفعة في المجتمع وتحفيز القادرين على مد يد العون والمساهمة في حل المشكلة، ولا خلاف في هذا، فلا يوجد من يفتش في نوايا الآخرين أو يفترض فيهم عدم سلامة النية، لكن الاختلاف يكمن في الكيفية التي تعرض بها الحالات، ومقدار الحرج الذي يعتري تلك الفئة المتعففة من الناس التي تجد نفسها مضطرة للحديث عن أوضاعها الخاصة، وربما أسرارها الشخصية تحت ضغط الحاجة والعوز، رغبة في وجود حلول لما تعانيه وانفتاح أبواب الفرج.

في بعض الفضائيات العربية يسلك مقدمو هذه النوعية من البرامج أساليب أكثر إيلامًا في سياق البحث عن الإثارة المصطنعة وجذب أعداد إضافية من المعلنين والرعاة، فيلجؤون لطرق أكثر جرأة حيث يدخلون بيوت أولئك المتعففين، ويصورون ما فيها من خراب ومظاهر فقر، ونشاهد في معظم الأحيان أعدادًا كبيرة من المارة والأقارب وهم يشاركون في عرض المأساة ويتحدثون عن معاناة جيرانهم، مما يضخم من حجم الفضيحة، فيبدو الضحايا في حالة سيئة وهم يستسلمون لهذا الجلد المعنوي، بلا حول منهم ولا قوة.

هناك أيضًا جانبًا آخر أكثر استغلالية وانتهازية، حيث تهدف إدارة البرنامج لإقامة حفلة شو إعلامي لمالك الفضائية أو لشخصيات داعمة وممولة لبرامجهم، فيقوم المذيع بعد الانتهاء من التشهير بالضحية والحديث أمام المشاهدين عن ظروفه ومأساته وعجزه بتسليمه مبلغ من المال ويطلب منه الدعاء لولي نعمته، وربما يُفرض عليه التظاهر بالفرحة والابتسام أمام الكاميرا، فلا يملك إلا أن يفعل وقلبه يتفطر من الحسرة والألم، في صورة تجسد أبشع معاني الاستغلال والإذلال.

وكما قلت في بداية المقال بعدم الرغبة في الحديث عن المقاصد والأهداف، لكن حسن النية ليس مبررًا في كل الأحوال للإساءة للآخرين أو التقليل من شأنهم، ولو كانوا فقراء ومعوزين، ولكن ينبغي علينا كبشر أن نصون كرامة الآخرين ونحترم إنسانيتهم.

ومما يحز في النفس أننا نشاهد توسعا كبيرًا في نوعية هذه البرامج التي لم تعد حصرًا على الفضائيات، بل إن بعض برامج اليوتيوب ومشاهير التواصل الاجتماعي دخلوا في هذا البازار العلني، رغبة في زيادة نسبة المتابعين وتحقيق التريند، وكأن الأمر صار ميدانًا يتسابق فيه الجميع على كشف أسرار البيوت وعرض آلام المتعففين.

لقد تحول الموضوع بطريقة أو أخرى إلى أن أصبح ملاك الفضائيات أو المشاهير يعتاشون من آلام الآخرين، وينسجون نجاحاتهم بدموع الفقراء ونظرات الذل والانكسار، وهذا الأمر لا يتوافق مع الفطرة السليمة، ولا ينضوي تحت تعاليم الدين الحنيف، ولا ينسجم مع مبادئ المروءة ومكارم الأخلاق.

صدقة السر يا هؤلاء التي لم تخالطها شبهة رياء ولا منّ ولا أذى هي التي تفتح آفاق الخير، ورب دعوة يرسلها أحد الفقراء والمساكين في جوف الليل تتفتّح أمامها أبواب السماوات، وتكتبها الملائكة فتكون ظلًا لصاحبها يوم القيامة، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه».