لهنريك إبسن مكانة سامية في تاريخ المسرح، ولا أظن الظرف يسمح بإيفائه حقه من الإشادة، بما كنت أحب أن أفي به؛ ولكني ألخص له رواية، هي في أسلوبها وغاياتها آية بينة على أسلوب إبسن وغاياته من الروايات المسرحية، التي جعل منها موضوعًا لدراسة المجتمع ومشاكله؛ ولا أحدثك عن ميزات إبسن العالية ومهارته في حبك الموضوع وصياغة المحاورات، وتوجيه ذلك كله إلى ما يقصد من نقد وإصلاح، فهذا كله لا يكفل وعيه في النفس إلا دراسة الرواية والاستمتاع بها.

فإذا كان مثل هذا التلخيص الذي نعرض له الآن يحفز على هذه الدراسة، وذلك الاستمتاع، فقد وفقت إلى أقصى ما أريد.

نحن في حجرة بحديقة نصر القنصل (برنك) بإحدى موانئ، الدنمارك، وهي معمورة بسرب من السيدات والآنسات، جلسن يستمعن إلى الأستاذ (رولند) وهو يقرأ في كتاب، من بين هؤلاء السيدات مسز برنك زوج القنصل، ومارتا أخته، ودينا وهي فتاة ربيبة القصر.

وإذا أصغيت بأذنك لما يدور من الأحاديث، علمت أنك في قصر أكبر رأسمالي في الميناء وهو برنك صاحب المشاريع الخطيرة والأعمال النافعة للمجتمع. مما جعل قومه يرفعونه إلى أسمى المكانات ويطلقونه مثلًا جميلًا على الإخلاص ونقاء السريرة وعلو الهمة والغيرة على المصالح الاجتماعية والمبادئ الخلقية، وإنك لتحس أنك في وسط أرستقراطي شديد المحافظة تطغى عليه ظاهرة واحدة لعلها تدل على عظيم أثر القنصل فيمن حوله، وهي التفاني في المجتمع والحرص على ما يمهد له سبل السعادة والتقدم والخير.

ويرجع الحديث بالمتحدثين إلى الماضي، ويذكر كل منهم ما هاجه الحنين والذكرى في نفسه من المؤثرات، ويطرق الحديث شؤونًا مختلفة وضروبًا متباينة، يكون من بينها التمثيل والفرق التمثيلية التي كانت تزور البلدة منذ خمسة عشر عامًا. والظاهر أن هذا الحديث يوقظ في بعض النفوس ألمًا خفيًا، فإنه ما تكاد تخرج مسز برنك ومارتا ودينا والأستاذ ويخلو الجو للزائرات، حتى تنطلق إحداهن تلوم تلك التي تحدثت عن الفرق التمثيلية. وتأخذ عليها أن تذكر الخبر أمام مسز برنك والفتاة دينا المسكينة، فإذا تتبعت الحديث، وضح لك من قصر برنك ما لا تكاد تصدقه؛ فذلك الرجل العظيم لم يتورع العار أن يتسرب إلى بعض نواحي بيته منذ خمسة عشر عامًا.

ثم كان أن سافر إلى أوروبا، فلما رجع تجافاها ووقع في حب الممثلة مدام دورف، وفي ذلك الوقت رأى أخت لونا الصغيرة وعلم أنها الوريثة الوحيدة لعمة لها؛ فبادر إليها يتودد، حتى علقها بحبه وعقد خطبته عليها ثم تزوجها.. وهو يكاد لا يتماسك أمام نظرات لونا، ولكنه يدافع عن نفسه دفاعًا يراه وجيها، وتراه معيبًا، إذ يقول إنه كان يحبها حبًا صادقًا، وإنه إنما تزوج أختها لثروتها لا لحبها، لأنه لما رجع وجد أن بيت آبائه مهدد بالخراب، وناداه واجبه نحو آبائه والمجتمع، فلباه على الوجه الذي ترى؛ ولكن لونا لا تحفل كثيرا بمثل هذا الواجب، وإنما يدهشها، أن تناديهم بأسمائهم كأنها تعرفهم حق المعرفة، ولا يطول تساؤلهم لأنهم يعرفون فيها «لونا» أخت مسز برنك وبطلة ما ذكرنا من حوادث وتخبرهم أن جوهان معها وأنه في طريقه إلى القصر وتستطيع أنت أن تتصور لنفسك ما أحدثه ظهور لونا وجوهان في نفوس الزائرات وأصحاب القصر على السواء، من الدهشة والألم والخجل، بعد إذ علمت من أمرها ما علمت.

طبيعي جدًا أن يحدث قدوم الأمريكيين انزعاجًا في الأسرة، وطبيعي جدًا أن يصلى ناره القنصل وزوجه، ما دامت هذه تحس إحساسًا قويًا بما تسببه له قرابتها لهذين الشخصين من تكدير صفو الحياة، وما دام هو قاسيًا فيها يمس السمعة والخلق؛ ويؤكد هذا النفور والألم بين الزوجين شکوی هیامار من الزائرين اللذين منذ قدومهما لا ينيان عن السير في طرق المدينة ومعها دينا وأولاف (ابن القنصل الصغير) بحالة لفتت الأنظار وأيقظت الذكريات وأطلقت الألسن بالأحاديث المرة؛ ومستر برنك يتألم لذلك من غير شك، ولكنه يرجو من هيلمار أن يتغاضى عنه، وألا يذكر الماضي بكلمة أمام الزائرين رحمة بهما! فتهتف به زوجه: ما أكرمك! ما أنبلك! وينصرف هيمار ومسز برنك ويدخل أون رئيس بنائي السفن في مصنع برنك وشركاه، ويبدو لنا أن العامل ورئيسه مختلفان بسبب إدخال الآلات الحديثة في المصنع فالرئيس يضع أمامه مصلحة المجتمع ويستشهد باختراع آلة الطباعة، فقد كانت بلا شك سببًا في خراب آلاف البيوت، ولكن العاقل لا يمكنه أن ينكر فضلها أو يكابر في أن فوائدها لا تدع مجالا لذكر مضارها التافهة، والعامل من جهة أخرى يذكر العمال وبؤسهم ويسأل سيده ما عسى أن يكون رأيه في أمر آلة الطباعة، لو أنه كان عاملًا مثله!.

ثم يدخل الأمريكيان ودينا وأولاف، وقد تولدت بين جوهان ودينا علاقة ودية وسحرية؛ فهي لم تلق في حياتها إنسانًا مثله صراحة وبعدًا عن التكلف، كما أنها لم تلق من يحترمها احترامه من غير دافع عطف وإشفاق ومن غير خجل وخوف من الناس وأقوالهم؛ إلا أنها لا تحب أن يطلق العنان لعواطفه، فتعرضه لما لا يدري من الشكوك التي تشبع جوهان! ولا يلبث أن يدخل الجميع إلى القصر، إلا جوهان بطل قصة الممثلة، وبرنك عمود المجتمع؛ ولا يكاد يخلو بها المكان حتى ينظر القنصل إلى الفتى بوجه يطفح بشرًا وامتنانًا ويقبض على يده ويقول:

حياته قائمة على ثلاث أكاذيب: كذبه على جوهان لأنه يحمله من الذنب ما لم يفعل، وكذبه على زوجه لأنه يخدعها بحب لا يسعه قلبه، وكذبه عليها لأنه ضحى بها... فأية حياة هذه التي تستمد من الأكاذيب ؟! أفلا تراه يتألم لذلك؟ لا.. إنه رجل عملي بلا ضمير، وقد يستحيل عليه أن يتصور إنسانًا يرضى أن ينهار بنيانه، لأنه يقوم على كذب ؟ أليس لكل إنسان هفوة أو هفوات يحرص على إخفائها، وربما لو كشف عنها الستار بارت حياته ؟.

1933*

* كاتب وروائي مصري " " 1911 – 2006 "