هذا كله جميل، لكنني غريب في غربته، قولة أبي حيان التوحيدي، غريب عن البحر: بيتي، حديقتي، ملعبي، فكيف تكون الهناءة والحبيب الأزرق بعيد؟ تعويضًا أسترجع الماضي، أكتبه، أعوّض بما هو كائن، عمّا كان، أهدم العالم وأعيد بناءه، أستحضر تجارب البحر، أشدّها هولًا، أكتب وأكتب: ثماني روايات عن البحر، ولم أزل في المقدمة من هذا السفر الذي سيكتبه الآتون بعدي من الأجيال الشابّة، إذا لم تكن قلوبهم من تراب!

أكره الطرق المعبّدة، دأبي اكتشاف المناطق المجهولة في أدبنا: البحر، الغابة، الجبل، الثلج، المعركة الحربية، البلدان البعيدة، النضال الوطني السري، الموت، الجنون، الشجاعة، البطولات الشعبية، الموروثات والمأثورات والصور الغريبة، أكره، أيضًا، نصفي العاقل، لماذا، نحن الأدباء العرب، في العقلاء جدا، ولماذا في القعدة؟ وأين الجنون والانتحار وعدم الانتماء؟ لا أحب الذين يستريحون على مؤخراتهم؟

في أعمالي الأدبية (30 رواية حتى الآن) شخصيات كثيرة جدًا: هناك عالم متكامل من مخلوقات متنوعة متباينة، على أرضية واقعية، تمتزج معها الرومانتيكية وتتبلور في تصرّفاتها والأقوال، (روائي واقعي رومانتيكي)، هذا هو عنوان دراسة الدكتورة نجاح العطار، التي نُشرت في (الطريق) و (المعرفة) ومجلات أدبية أخرى، ذلك أن الواقعية، كما ترى الناقدة الدكتورة العطار، تتسع وتستوعب، كل المدارس الأدبية.

أذكّر هنا بطرفتين: أولاهما أنني كلفت صديقًا بأن يجمع لي أسماء شخصيات رواياتي، قبل أن أبدأ كتابة رواية (النجوم تحاكم القمر)، فقام بالمهمة حتى عجز عنها. قال لي: (هناك أكثر من (560) شخصية، في عشر روايات فقط، فكم يكون العدد في الروايات العشر الأخرى؟ إنني، وأنا أقرأ الرواية، تستهويني الأحداث، فأنسى إحصاء الشخصيات، ويكون علي أن أعود من جديد، وهذا ما لا أستطيعه، يا للغرابة إن ضحكت طبعًا وقلت: (أنا تلميذ بالنسبة لأستاذي نجيب محفوظ، فكيف لو كلفك هو بما كلفتك أنا به؟).

الطرفة الأخرى أن أديبًا من اللاذقية، هو الأستاذ سمير سكاف، قام بمحاولة من هذا النوع، دون تكليف طبعًا، وقد كتب إلي، بعد أن أعياه الجواب عن السؤال التالي: (من أي متحف بشري جئت بهذا الحشد من المخلوقات، الذين لا يشبه أحدهم الآخر؟! إنني ألجأ إليك، وأنتظر الجواب!) ضحكت ولم أجب، أنا نفسي لا أعرف، وأحسب أن هذا السؤال من باب التعجيز، وأشهد أنني عاجز!

إذن، بمقياس كهذا، كيف أحصي الشخصيات الروائية التي تركت بصماتها في ذاكرتي؟ كيف أعد الشخصيات التي لم أكتبها بعد، والتي لا تزال حبيسة في طاسة رأسي، تدق على صدغيّ طالبة الخروج إلى النور؟ أحيلكم، في الجواب، إلى روايتي (النجوم تحاكم القمر)، و(القمر في المحاق)، ففيهما متحف مخلوقات أكبر بكثير من المتحف الذي سألني عنه الأديب سمير سكاف، عرفتم الآن، لماذا أنا معذّب، ولماذا أفكّر باعتزال الكتابة؟! إنها (ملهاة إنسانية) كاملة! وإنها لسخرية أن تحاكم الشخصيات الروائية مبدعها الروائي، بكل ما تعنيه المحاكمة، التي يتهم فيها المؤلف عناد الزكرتاوي بقتل ديمتريو، بطل (مأساة ديمتريو) ويُحكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ، حتى يكمل كتابة ما تبقى من روايات وقصص! وهو، المؤلف، يصرخ ناشجًا: (نفّذوا! نفّذوا!) ذلك أننا، بعبارة واحدة، محكومون جميعًا بالإعدام مع وقف التنفيذ، حتى نواصل حياة الأديب العربي التي هي، مع التخفيف والرحمة، حياة تعاسة دراماتيكية بامتياز!

أحب أكثر شخصياتي. إنها منقوشة في الذاكرة. ليتها لم تكن كذلك، وليتني أصاب بفقدان الذاكرة حتى أنساها، مرة واحدة وإلى الأبد! تعرفون لماذا؟ لأن مصيرنا إلى الجلجلة، وعندئذ نصلب فنموت، ونُنزل صليبنا الذي نحمله منذ أمسكنا القلم! هذا ليس من التشاؤم، فالمعروف عني أنني بائع تفاؤل، إلا أن الكاتب، الذي يرى ما لا يراه الآخرون، يعرف أن كل إنسان يحمل صليبه في هذه الحياة، مع الفارق في حجم الصليب وثقله، فالمليونير، وبالدولار كوحدة نقدية، يحمل صليب الشره للاستزادة من جمع المال، بينما نحن، الأدباء الفقراء، وكذلك أبناء الشعب الذين مثلنا، نحمل صليب الركض وراء اللقمة!

الإنسان ابن تاريخه الاجتماعي، والتاريخ حقب ومراحل، ونحن الآن في مرحلة المجتمع الاستهلاكي، حيث النفعية عنوان كبير وبارز له، مع كل ما ينطوي تحتها من شرور وآثام، لكننا، في الوطن العربي مكتوب علينا أن نواصل الكفاح، في سبيل التحرير واسترداد الحقوق، وضد التطبيع الثقافي، وكل تطبيع، مع إسرائيل، التي تحتل أرضنا وتقتل وتشرّد إخوتنا في فلسطين، وهذا الكفاح مجيد، وسيكون مجيدًا أكثر، ومجديًا أكثر في مناخ الحرية التي يريدون وأدها، كما في حادثة التفريق الجائرة والظالمة بين نصر حامد أبو زيد والسيدة زوجته. الإبداع رسالتنا إلى العالم، به وحده نجابه التحديات الثقافية في الجوار وفي العالم، لكن الإبداع نبتة تحتاج إلى الشمس، وهذه اسمها الحرية الفكرية.

2002*

* روائي وكاتب سوري " " 1924 - 2018"