كشفت الأحداث الأخيرة عن خلل أساسي في الفكر الأيديولوجي الذي سيطر على البشرية ردحا طويلا من الزمان، ولكن هذا الخلل في رأي مزدوج، ولا يقتصر على ما يطلق عليه اسم «الأيديولوجية الشمولية» وحدها.

فقد مارست الأنظمة الاشتراكية، والشيوعية منها بوجه خاص، تجربة حاولت فيها أن تؤكد أولوية القيم الاجتماعية على الفردية، وكانت هذه السمة فيها تبدو متماشية مع المنحنى العام لتطور البشرية، الذي يسير نحو العلو على الاهتمامات الذاتية، ويستهدف توسيع نطاق الدوافع التي تحرك الإنسان بما يتجاوز مصالحه الفردية. ولكن الخطأ القاتل الذي وقعت فيه هذه الأيديولوجية هو أنها تصورت أنها، في سبيل تحقيق هذا الهدف، ينبغي أن تسحق الفرد، فترفض مبدأ التعدد والتباين في الآراء، وتنكر الحريات الأساسية، وتجعل السلطة الحاكمة في المجتمع أداة للقمع تقوم على إملاء الأوامر، لا على التعبير الصادق عن آراء القاعدة الواسعة من المواطنين. وهكذا كانت تلك روحا جماعية مفروضة من أعلى، ولم تكن تمثل تطورا طبيعيا تعلو فيه الإنسانية على مستوى الفردية المتمركزة حول ذاتها. ومن هنا جاء رد الفعل عنيفا، فور أن سنحت الفرصة، وعادت الفردية المسحوقة لكي تؤكد نفسها بإصرار، وبمبالغة شديدة في بعض الأحيان (وهو أمر متوقع في كل رد فعل ينتقل من النقيض إلى النقيض).

غير أن الأمر الذي لا ينتبه إليه الكثيرون، في غمرة أعياد النصر الصاخبة التي تستمتع بها الأيديولوجية الرأسمالية في هذه الأيام، هو أن الحرية - وهي القيمة الأساسية التي يرتكز عليها بناء تلك الأيديولوجية، والتي تكسب بواسطتها العدد الأكبر من أنصارها - هي مفهوم يستخدم هنا بطريقة تنطوي على خلط أساسي.

فالحرية في المجال الاجتماعي والسياسي هدف رفيع يسعى إليه الجميع، والدعوة إلى حرية التعبير عن الرأي وحرية المعرفة وحرية الاختيار والرفض والانتماء، هذه الدعوة كانت مكمن القوة في النظم الليبرالية التي خلقتها الأيديولوجية الرأسمالية وكان الافتقار إليها هو نقطة الضعف الكبرى في الأيديولوجية المضادة.

غير أن الجاذبية الهائلة لمبدأ الحرية في هذه المجالات، تستغل من أجل الدعوة إلى الحرية الاقتصادية، وإضفاء هالة من التكريم على هذه الأخيرة وكأنها وجه آخر لكل الحريات الاجتماعية والسياسية والفكرية. وحقيقة الأمر أن معنى الحرية في مجال الاقتصاد يختلف كلية عن معناها في مجال العلاقات الاجتماعية والسياسية، ويصل هذا الاختلاف إلى حد نستطيع معه القول إن حصول المرء على حريته في التفكير والتعبير والنقد واختيار ممثليه الحقيقيين، هو عنصر أساسي لا تكتمل بدونه حقوقه كإنسان، على حين أن الحرية الاقتصادية، بما تفترضه من ترك الإنسان تحت رحمة قوى السوق الطاغية، وبما ترتكز عليه من منافسة طاحنة تسحق كل ما يقف في سبيلها، وبما تؤدي إليه عمليا من تأكيد الحرية للحيتان الضخمة في المجتمع، وضياعها لدى الكثرة الباقية، هذه الحرية الاقتصادية يمكن أن تكون عقبة خطيرة في وجه كثير من الحقوق الأساسية للإنسان.

هناك إذن خطأ جوهري في كلتا الأيديولوجيتين المتنافستين: الاشتراكية حين طبقت على نحو يؤدي إلى سحق الفرد بحجة الحرص على المصلحة الجماعية، والرأسمالية حين أوهمت الناس، الذين يعشقون الحرية، بأن عليهم أن يقبلوا الحرية الاقتصادية بدورها، وكأنها جزء لا يتجزأ من تلك القيمة النبيلة.

ونحن اليوم نشهد، في قصة التطور الأيديولوجي للبشرية، ذلك الفصل الذي اكتشف فيه الناس الخطأ الأول اكتشافا مدويا. فالعصر الذي نعيشه هو عصر انقشاع وهم كبير، فرضت على الناس فيه سياسات كبتت كل نزوع خلاق للفرد نحو الخروج عما هو نمطي ومألوف، وأوهمه القائمون بالحكم - في مجموعة البلاد التي كانت اشتراكية حتى عامين مضيا - بأنه لن يستطيع أن يخدم مصلحة المجموع إلا إذا أصبح مطيعا للنظام، ولم يحد عن الخط المرسوم.

هذه هي المرحلة التي نعيشها الآن، والتي تمثل تحولا أساسيا في تاريخ الأيديولوجيات البشرية. غير أن هذه ليست المرحلة الأخيرة. فما زال في القصة، على الأقل، فصل واحد، هو ذلك الذي يكتشف فيه الناس، بالطريقة المدوية نفسها، خطأ الأيديولوجية الرأسمالية، ويثورون على ترك الإنسان ريشة في مهب الريح التي تدفعها قوى السوق الآلية.

وربما كانت المظاهرات الضخمة للألمان الشرقيين، بعد أقل من عام من اختيارهم الوحدة والطريق الرأسمالي بحماسة منقطعة النظير، علامة مبكرة على هذا الطريق، وتجربة أولى لأحداث هذا الفصل التالي في القصة. ولكن المهم أن نتجنب الحكم على المستقبل البعيد من خلال ما حدث في فترة قصيرة، ساخنة ومفاجئة، كالسنتين الأخيرتين.

فقد أحرزت النزعة الفردية، بلا شك، انتصارها الحاسم، ولكن الإنسان الذي استعاد فرديته سيكتشف، عاجلا أو آجلا، أن عناصر أساسية في إنسانيته قد هزمت، وسيتمرد على هذا الوضع بدوره، ساعيا إلى استرداد العناصر الضائعة من كيانه.

فالقصة لم تتم فصولها بعد، وأغلب الظن أننا سنشهد، بعد زمن يطول أو يقصر، فصلا آخر يرتفع فيه الصراع من أجل تأكيد إنسانية الإنسان إلى مستويات لم يشهدها التاريخ البشري من قبل.

1991*

* باحث واكاديمي مصري متخصص في الفلسفة " 1927- 2010".