في استراحة عمل مع صديقي عبدالله أحد خريجي الهندسة من أمريكا، والمشغل لفندق أسرته، ومع ذلك أول من يحضر للعمل وآخر من يغادر، في عمل كاد أن يقبل به بمرتب بـ 3 آلاف كمكافأة تدريب، فكان سؤالي البديهي له لماذا؟، فبدأ الحديث بتوجهه بعد نهاية يومه الدراسي في الجامعة للعمل كمقدم طلبات في أحد المطاعم بأمريكا بحسب نظام الأجرة بالساعة. ووصل الحديث عن النعم التي نتقلب فيها والبعض لا يشعر بها، مثل نعمة الصحة والأكل والأمان، وكيف أن هذه الأشياء زادت لدى البعض حتى أصبح همه كيف «يعيش ليأكل»، والمفترض أنه «يأكل ليعيش»، فقال: لو أن الأمر في الأكل فقط لوجد كل منا تقريبا كفاف يومه، ولكن بماذا شكرت نعمة أن دمك لا يزال يسري في عروقك وغيرك قد أصابه توقف ذلك الدم؟، هل تحركت هذا اليوم فيما يجعلك تشعر أنك تعيش؟ أم عشت هذا اليوم للأكل والنوم؟.

مثلما كان يحادثني عامل محطة من شرق آسيا قبل 18 عاما تقريبا، وبعد أن توقف أغلب طلاب مدرستي بهذه المحطة لتزويد سياراتهم بالوقود وكانوا يصارخون «سرعة سرعة يبغى غدا»، فسألني بعد ذهابهم، «هذا نفر كله يجي بيت حصل أكل؟»، يقصد هل جميع من رأيتهم سيجدون غداء فور عودتهم لمنازلهم، وأكمل أنه في بلاده ليست الأغلبية تتغدى كل يوم، فكانت هذه العبارة كافية أن أجلس بأحضان أمي ذلك اليوم وأتغدى دون «التفزلك» والامتعاض على كل شيء، حتى علبة الكوكا لم تكن باردة بما «على مزاجي».

وحينما تبادلنا هذه الكلمات قال عبدالله، هناك أشياء نصحو كل صباح وهي ترافقنا ولكننا لا نعي أنها لنا كنوز ليس لها قيمة مهما حاولنا تقييمها ولا ندري، مثل نعمة البصر، فقال بأنه قرأ في الغربة كتابا بعنوان (Three days to see) للكاتبة الكفيفة (Helen keller)، وهو عنوان ترجمته المعنوية (لو أبصرت 3 أيام)، تحدثت فيه عن لو أنها أبصرت يوما، كيف أنها تريد معرفة شكل الوردة، وإن كانت قد رسمتها في مخيلتها باللمس، فإنها تتمنى أكثر أن تعرف ماذا يعني (لونها الأحمر)، ما هو هذا اللون الذي يحبه العشاق، وما هي الألوان من أصلها، ماذا تعني خيوط الشمس مع الصباح الباكر، ماذا يعني الماء، كيف شكله، ما هو المطر ما هو..... و..... و.... الخ، وانتهى حديثها وحديث عبدالله.

ما أريد قوله أن النعم من حولنا مثل ما حول سمكة صغيرة في وسط الأطلسي من ماء، فأنا كل صباح أمشي، حتى وإن كنت أعرج، فالمُقعد يتمنى أنه يعرج مثلي، وإن كنت مقعدا فالملقى على ظهره يتمنى أن يكون مقعدا مثلي يوما ما، فما بالك إن كنت صحيحا، ما بالك وما بالك بكل ما حولك من طوفان النعم التي نغرق بها ونعتقد أننا ظمآنين، فماذا لو استبدلنا العنوان (لو سمعت 3 أيام)، (لو شممت...)، (لو ضممت أمي...)، (لو قبلت طفلي 3 أيام).... الخ.

نظرة للسماء: يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).