يقال إن «الدليل قوام حياة الحق، ومعقد النفع منه». وهذ صحيح، فبالأدلة تُثْبَت الالتزامات، وتُنتزع الحقوق. وهذه الالتزامات والحقوق لا تُصان إلا بضبط وسائل حفظها، وإجادة طرق إبانتها.

من هذ المنطلق أولى سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- المنظومة التشريعية عناية خاصة، حرصا منه على تطوير القطاع العدلي، ورفعه إلى منزلة رفيعة تتواكب مع التحديثات الضخمة التي يضطلع بها سموه حاليا.

وفي هذا المقام، صدر نظام الإثبات بموافقة كريمة عليه، في الثامن والعشرين من ديسمبر الماضي.

يشكل هذا النظام رابع أربعة أنظمة سبق أن أعلن عنها سمو ولي العهد، وهي، إضافة إلى نظام الإثبات، (نظام الأحوال الشخصية، نظام المعاملات المدنية، نظام العقوبات). وهذه قوانين ذات أهمية قصوى في حياة الشعوب عامة، ولا غنى عنها لأي منظومة تشريعية وعدلية حديثة.

بقراءة سريعة لمواد النظام يتضح كم هو جدير بالاحتفاء والتبشير، إذ يتضح مدى الجهود الضخمة التي بُذِلَتْ في إعداده، وفي جعله يحتوي على كل مَواطن الأدلة المعاصرة التي تثبت بها الحقوق، وتُؤدىَ بواسطتها الالتزامات.

كما أنه قضى على سلبيات عديدة كانت تعتري مظان الأدلة التي كانت محل اجتهاد القضاة، ومنها دليل الشهادة، الذي طالما اُثْبتتْ به حقوق ضخمة، وأُدِّيتْ في ظله التزامات كبيرة، فجاء النظام الجديد ليجعل له سقفا ماليًا لا يتعداه، وهو سقف بسيط جدا، إذا ما قورن بما كان يحصل سابقًا في ظل الاعتماد عليه، أقصد دليل الشهادة.

ومن مواطن التطوير التي قصدها النظام تأكيده على أنه «لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي». فما يعلمه شيء، وما تقوله الوقائع والمستندات التي بين يديه شيء آخر. والوقائع والمستندات والأدلة هي التي يجب أن يُعول عليها في الأحكام، بعيدًا عما يعلمه القاضي. ومنها أيضًا ما أقره النظام من أن «الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان».

من المزايا الكثيرة التي حملها النظام أيضًا أنه نحا منحى الحرية في الإثبات، إذ قضى في المادة الخامسة بأنه «لا يلزم لإثبات الالتزام شكل معين؛ ما لم يرد فيه نص خاص، أو اتفاق بين الخصوم». وهو مبدأ موجود في أساسه في المعاملات التجارية التي تعتمد على السرعة والائتمان، فجاء إقراره في نظام الإثبات بمثابة تطوير لآليات الإثبات، بعد إلزام أن تكون في شكل معين. ومع ذلك، فقد أعطى النظام المتخاصمين الحرية في أن يتفقوا على شكل معين للإثبات، لكن بشرط أن يكون اتفاقهم مكتوبا. وهو استدراك رائع، فاتفاق المتخاصمين على عدم إعمال النصوص غير الآمرة يقتضي توثيقها كتابيًا، درءًا للاختلاف والشقاق، وإلا فالأصل إعمال النصر المكمل، أو غير الآمر.

ومما حمله النظام من وسائل إثبات ضرورية ومعاصرة ما أعطاه المحكمة من حق عدم الأخذ بنتيجة إجراء الإثبات، بشرط أن تبيّن أسباب ذلك في حكمها. وهذا بلا شك سيقضي -عند سريان النظام- على سلبيات عديدة نتجت، ولا تزال، عن إصرار القاضي على عدم تسبيب رفضه إثباتا معينا، رغم أهميته للمتخاصمين أو أحدهما.

لم يشأ واضعو النظام أيضا، وهو يمثل باكورة النظم التشريعية الحديثة التي وعد بها سمو ولي العهد -حفظه الله-، أن يُغفلوا التطورات الحديثة في المجال المعلوماتي الإلكتروني، ولذلك قرر النظام أن «يكون لأي إجراء من إجراءات الإثبات اُتُّخِذَ إلكترونيًا، الأحكام المقررة في هذا النظام».

وفي تطور لافت يخص (الإقرار)، نص النظام على أن «يكون الإقرار غير قضائي إذا لم يقع أمام المحكمة، أو كان أثناء السير في دعوى أخرى». وعلى ذلك، فإقرار المدعى عليه بما اُدُّعِيَ عليه فيه، إن لم يكن أمام القاضي، أو أنه أقرّ به أثناء سير محاكمة أخرى، فإنه لا يُعتد به.

ومن المسائل المهمة في هذ الشأن ما جاء به النظام من إلزام المُقِر بإقراره، حيث نصت المادة الثامنة عشرة على أن «يُلزم المُقِّر بإقراره، ولا يقبل رجوعه عنه»؛ فكثيرًا ما أعيق سير محاكمات، مدنية وتجارية، بسبب تراجع بعض الخصوم عن إقراراتهم التي تفوهوا بها أمام القاضي، فجاء النظام الجديد حاسمًا في هذا الاتجاه.

لا تكفي مساحة هذا المقال، للحديث عن المميزات العديدة التي حفل بها نظام الإثبات، لكنا أردنا الإشارة إلى جزء بسيط مما يحتويه من تطورات انتظرناها طويلا. وعلينا انتظار صدور ضوابط إجراءات الإثبات إلكترونيا، والقواعد الخاصة بتنظيم شؤون الخبرة أمام المحاكم، والأدلة الإجرائية والقرارات اللازمة لتنفيذ هذا النظام، التي كلف النظام وزير العدل بإصدارها، بالتنسيق مع المجلس الأعلى للقضاء، لتكتمل الصورة الزاهية للنظام.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقدم أسمى آيات الشكر والعرفان لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ولسمو ولي العهد -حفظهما الله- على ما يوليانه من اهتمام كبير لتطوير القطاع العدلي، شأنه شأن المجالات الأخرى التي تحظى باهتمامهم أيضاً.