من أسوأ الأمور المتعلقة بالعالِم وكذا بطالب العلم، عدم استحضار خطورة ما يقوله الواحد منهما، أو استغلال الذي يقوله في أغراضه الخاصة، أو توظيفه ذلك فيما يخدم معاركه الشخصية؛ سواء أكانت فكرية أو سياسية أو غيرها، وتعمد نسيان تنزيه النفس عن كل ما هو ضد الإخلاص لله، والصدق معه -سبحانه وتعالى- خاصة أن المسائل الشرعية لا بد للمتصدر لها من استجماع الهم، وإمعان الفكر، واتقاء الخلل، والبعد عن خوارم المروءة، وبذل الجهد في الوصول للصواب، والبعد عن الأخطاء التخصصية الدقيقة، مثل عدم القدرة على فهم السؤال، وقبول الأسئلة الشخصية بالنيابة عن أصحابها، والتمادي في التسهيل، وغير ذلك كثير.

هناك تغيرات عميقة بل وخطيرة في حياة الناس اليوم، اعترت حياتهم العامة والخاصة، ولا بد من مواجهتها بحكمة بالغة، وأقصد هنا ردم الفجوة بين العلوم الدينية والحياة والعلوم الدنيوية، وهذا يحتاج لتيسير أسباب التعلم، والعناية بالدارسين كذا مظان التأهيل، من مراكز الخبرة، العامة والخاصة، الجديدة منها والعتيقة، ما دامت ملتزمة بالنهج المتفق عليه بين الناس، لأن الانغلاق والانطواء من الأمور المضرة بالمسيرة المحمودة المطلوبة، وعكسه كان هو المطلوب في زمن مضى، واليوم أشد وآكد، مما يستدعي صياغات مستجدة، ومراجعات مستمرة لكل المناشط الحياتية، التي تتسق مع رؤية بلادنا المباركة، ورؤية العالم من حولنا، وتتناسب مع مختلف النوازل، التي ساهمت حركة الأفلاك، وتطورات الناس في حدوثها.

أي عالم، وكل طالب علم بحاجة ماسة إلى تجديد في معلوماته، كلما تجددت القضايا والنوازل، وليس صوابًا أبدًا الاكتفاء بالمفاهيم القديمة، فهناك دائما ما يحتاج إلى التوسيع، أو التضييق، أو حتى التوليد من جديد، وهذه مسائل لا يمكن التغافل عنها، فما عادت المصالح على وزن واحد، وما عادت المفاسد كذلك على وزن واحد.

ومعلوم أنه قد يترك الواجب للمحافظة على الواجب الآكد، وقد ترتكب المفسدة الصغرى تفاديًا من الوقوع في شقيقتها الكبرى، وهنا لا أتكلم عن العبادات، لأنها تابعة لإرادة كل إنسان، وإنما أتكلم عن الجوانب الأخرى، كالعلاقات الاجتماعية، والتعاملات المالية، والمسائل التنظيمية المحددة لعلاقات الناس مع بعضها، وهذه كلها تقررها الدول والحكومات بحسب الحوادث والظروف، كما جاء في الأثر الشهير: «تحدَث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور»، الذي نسبه بعضهم إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ونسبه آخرون إلى ابن قيم الجوزية، وبعضهم إلى الإمام مالك بن أنس، وبعضهم إلى ربيعة الرأي، وورد مزيدا عليه بعبارات أخرى رائعة: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور؛ [فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور]».

ورحم الله العلامة أحمد شاكر الذي قال: «هذه كلمة حكيمة جليلة، لا كما فهم ابن حزم، فإن معناها أن الناس إذا اخترعوا ألوانًا من الإثم والفجور والعدوان؛ استحدث لهم حكامهم أنواعا من العقوبات والأقضية والتعزير، بقدر ما ابتدعوا من المفاسد، ليكون زجرًا لهم ونكالًا».

ومعنى الكلام أن الفتوى والأحكام، لا بأس، أو بالأحرى، لا بد أن تتغير إذا تغيرت أخلاق البشر، لأن الاختلاف هنا «اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان».