يعد علم الفقه في الحضارة العربية الإسلامية، الأساس المعرفي في غالب الأنشطة الفكرية، وكل منجز علمي تنتجه هذه الحضارة فإن الفقه يقف على رأس الهرم في مسألة منح الدافع لتحقيق هذا المنجز. وكما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: «إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها حضارة فقه». فالرغبة وراء التفقه بالنص القرآني كانت هي المحفز الأكبر لكل نشاط فكري أو عقلي داخل هذه الحضارة.

قد يتساءل أحدنا، ما علاقة علم الكيمياء الذي ارتبط باسم جابر بن حيان بصفته رمزا من رموز الكيمياء والمنهج التجريبي في التاريخ القديم بعلم الفقه وعالم الفقهاء؟ إن علم الكيمياء كما نعرفه اليوم لم يكن معروفا في عصر جابر بن حيان بصفته علما مستقلا، لذا وصفه بالعالم الكيميائي وصف غير دقيق إلى حد بعيد. علم الكيمياء اليوم، مستقل، تفصله حدود واضحة المعالم عن بقية فروع المعرفة، ويبدو غير مرتبط بأي خلفية ثقافية أو دينية. علم الكيمياء اليوم أصبح يوظف عمليا ضمن إطار رأس مالي يسعى لتحويل كل شيء إلى منتجات وسلع تباع في السوق وتولد الثروة. وهذا السلوك الرأسمالي لم يكن يوجه ميول العلماء في عصر جابر بن حيان أو يحدد أفكارهم.

إذا أخذنا في الحسبان أن علم الفقه علم شامل لا يعرف الحواجز، فقد ترجم جابر بن حيان الأهداف الفقهية من الشرعيات لتتوافق مع الوقائع الكونية والطبيعية، فكثير من المعارف البشرية في عصر ابن حيان داخلة في دراسة المفاهيم القرآنية، من حيث إن القرآن يشجع الإنسان لينظر في هذا الوجود للكشف عن أسراره وخفاياه. ودفع الجهل بالأمور الدنيوية -الظواهر الكيميائية هنا- يعد داخلا ضمن إطار المعرفة الدينية على اختلاف موضوعاتها.

استعمل جابر بن حيان المنهج التجريبي في نشاطه العلمي، ومن هنا نستطيع أن نربط اهتماماته بعلم أصول الفقه، كون الفقه ساهم في نشأة وتطور المنهج التجريبي، بل إنه لم يتطور داخل الحضارة الإسلامية إلا لأغراض فقهية خالصة. فقد قادت مبادئ القياس الفقهي عند الأصوليين لظهور قوانين الاطراد أو ما يسمى بالتناسق والنظام في العالم، ضمن إطار ما يعرف عند الفقهاء بمفهوم العلية التي يراد من دراستها الوصول إلى أحكام كلية في سلوك الإنسان.

والبحث عن اطراد العلل وتتابعها لاستنتاج الأحكام يتطلب وجود أداة بحثية مهمة وهي الاستقراء. وقد كان جابر بن حيان يناقش ظاهرة التعميم من خلال الاستدلال على الغائب بدلالة الشاهد ولكن من خلال فكرة الاطراد في الظواهر الطبيعية ومنها بعض الظواهر الكيميائية، أي كلما حدثت ظاهرة محددة فإن الظاهرة الأخرى المقترنة بها تحدث بالضرورة، والأساس الذي تنطلق منه هذه الفكرة هو المبدأ الفقهي المعروف بمبدأ العلية.

يقول أوليفر ويندل: «كلما تقدمت العلوم ضاقت بينها وبين الدين شقة الخلاف، فالفهم الحقيقي للعلوم يدعو إلى زيادة الإيمان بالله». حديث ويندل ينطبق إلى حد بعيد على حالة جابر بن حيان، فأي نشاط فكري أو منهج علمي -آنذاك- لا يخلو من خلفية دينية أو ثقافية ينطلق منها، و ابن حيان كان ابن عصره الذي تدور كل اهتماماته في التفكر ومحاولة فهم النص المقدس الذي يؤمن به.

وهو إن كان يناقش موضوعات تبدو في عصرنا الحديث وكأنها منفصلة تماما عن الدين ولكنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتدين ولها دوافع دينية محضة تنطلق منها. وكما يقول الجابري: «كان الفقه هو الميدان الذي تلاقت فيه مختلف الاختصاصات قبل عصر التدوين وخلاله وبعده». فكل الأنشطة العلمية في عصر جابر بن حيان لها دوافع فقهية واضحة، وبحكم أن تلك العصور تعتبر عصور ما قبل الرأسمالية فإن الدوافع تختلف عن دوافع عصر الرأسمالية الذي يؤمن بالتخصص، ويصنف الناس طبقيا واجتماعيا ضمن تخصصات تفصل بينها حدود واضحة المعالم.