لم أعرف منشأ الجمال في قصيدة «الغيمة والقفر» للشاعر عبدالعزيز خوجه، أول عهدي بها، لكنني أنشأت أعيد قراءتها مثنى وثلاث ورباع. كان يداخلني، كلما قرأتها، شعور بالجمال، قربه إلى معاودة القراءة والإنشاد، فأسلمتني كل جولة إلى لون من ألوان الجمال، على أنني أقصد بـ«القراءة»، في ما سلف من كلام، أصلها اللغوي، لا معناها الذي يريده النقاد، لما استبدلوها بكلمة «التحليل».

ولست أخفي أن شيئاً من روعتها مرده هذه الثنائية – أو الإثنينية – التي قامت عليها القصيدة؛ فالعنوان «الغيمة والقفر»، ينبئ بها، وأبيات القصيدة تفصح عنها، لكنني أدركت، في قراءة ثالثة، أن القصيدة مبنية على ثلاثة أصوات؛ أولها صوت «الغيمة»، وثانيها صوت «القفر»، وثالثها يستخفي خلف «الشاعر»، أو «الراوي» الذي صار إليه الوصف والقول، فالغيمة لا تتكلم إلا بأمره، وكذلك القفر، واستبد الصوت الثالث بالقصيدة، يمهد للقول، ويصف، ويقول

قالت الغيمة للقفر اليباب

وهي ترنو من بعيد للسراب:

من غد أثوي على تلك الهضاب

من غد يخضر بالمزن التراب

على أن الشاعر– وإن شئنا الصوت الثالث– فوض إلى نفسه، في جانب رحب من القصيدة، التكلم نيابة عن «القفر»، وكأنما وافق اسمه مسماه، فالتزم الصمت، أو كأنما حرم الكلام لطول ملازمته اللظى والهجير والعزلة، فترجم الضمير الثالث عن مكنون ضميره، أو ما أوحى به حاله، ولا شيء يوحي بحاله ويترجم عنه إلا ظناً واحتمالاً:

لم يصدق وعدها القفر العنيد

ربما لم يفهم المعنى البعيد

أو رأى في لغة الوعد الوعيد

فاللغات؟ نسي القلب اللغات..

والصبابات نسين الأمسيات..

أترى مات ولم يدر الممات؟!

لكن «القفر» لم يمت كما توهم الشاعر، وها هو ذا ينطق

لا تقولي: سوف يأتي فأنا عفت الأمل

صهل الحزن بوقتي كل شيء قد رحل

أنت عن دربي ملت لم تعد تغني القبل

ثم عاد «القفر» فالتزم الإيقاع نفسه الذي بنيت عليه القصيدة، وكأنه يعالنها بما انتهى إليه تحاورهما:

إيه يا ديمة! يا بنت العباب

قد ألفت العيش في غمر التراب

وفقدت الشهد من ريق السحاب

لم أعانق في الهوى إلا العذاب!

ولما اكتمل تحاور «الغيمة والقفر»، عاد الشاعر– أو الضمير الثالث– يروي لنا ما خفي من أمرهما

ضحكت نشوانةً تلك السحابه

وتمنت لو سلا الرمل عتابه

ومضى يبعث في القلب اضطرابه

وغداً، قالت: سأنسيه اكتئابه

صمت القفر طويلاً وبكى

وعلى كثبانه الظمأى اتكى

ما الذي يجديه نفعاً لو شكا

كان صبا يكتوي في صمته

عاشقاً، لكن يخاف الشركا

إذن، لم يتبدل من حالهما شيء، ظلت «الغيمة» غيمةً في سمائها، ولبث «القفر» قفراً في صحرائه المهمة لا يريم، وربما كشفت القصيدة عن معنًى خبيء هو تلك الوشيجة التي جمعت «الغيمة والقفر» حتى كأنه لا تعارض بين مائيتها ويباسه، وعلوها وسفوله، ولا قيمة لأحدهما إذا استقل عن الآخر، إنهما الكلمة ومعناها، أو هما المبنى والمعنى، ووجها العملة، ولا سبيل إلى فهم أحدهما إلا بضده، إن بينهما من الاتصال ما بين «الوعد والوعيد»، على ما فيهما من تخالف، ذلك الذي كشفته القصيدة، أو عساه «معناها البعيد» المضنون عما سواها، مهما أقمنا بين الكلمات الحدود والسدود، أو هو التجاذب– أو التدافع– الذي يصل ما بين «الأضداد» ويفرق. وكأنما أرادت القصيدة أن تعلمنا أن الحياة لا تقوم بـ«المتشابهات»، وحسب، وإنما بـ«المتناقضات»، وليس بعيداً أن ما نظنه تخالفاً وتعاكساً إنما هو، في روحه وحقيقته، الذي يبعث في الحياة الحركة والنشاط.

ليس هذا كل ما في قصيدة «الغيمة والقفر». إن فيها لوناً من ألوان الفن، يصعب البيان عنه، ولكنني ألمسه في قافية القصيدة، على ما فيها من تنوع واختلاف = يحسه الذوق ولا تحسن الكلمات البيان عنه، ولا يباين ما أدركه، من قبل، نقاد الشعر وأرباب المعاني، لما وصفوا القافية بالحلاوة، وأنها تنزل في حاق معناها من البيت، فلا نبو فيها ولا ضعف، على ذلك النحو الذي نلقاه في نظرية «عمود الشعر». إنها تعبر عن ذلك بـ«مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما».