لم تكن الحياة سخية كما هي الآن، ولا كما كانت قبل ألفي سنة، ولم تكن الحوادث والتطورات تسير بالسهولة التي تسير بها الآن وقبل ألفي سنة، كان كل شيء في الحياة يبدو مخيفاً، مغلقاً، جامداً، مبهماً بطيئاً، لا يزحف، ولكن يختلج، ويتقدم بصعوبة.

وكان الإنسان يهيم في ظلمة مطبـقـة من نفسه، ومن الأخطار والألغاز المتواثبة حوله، وتحته، وفوقه. الشمس، العاصفة، الليل، القمر، النجوم، المرض، الموت، الأحلام، الصاعقة، البرق، كلهـا غامض، وكلهـا مـرعب، نحن نفهمها ونستمد من بعضها أسباب سرورنا بالحياة، وسرورنا بأنفسنا، ولكن الإنسان القديم كان يخافها ويجهلها. كانت كلها ألغازاً مجهولة معقدة، ما يرتفع عنها الستار، ولكن يزحزحه الإنسان، وذخيرته مـا يلقى في روعـه عنها، وهو يتوجس الموت في كل خطوة مرتجفة يخطوها، وفي كل خطرة من خطرات نفسه القلقة وبصيرته الكليلة. الأشد ما عاني هذا الإنسان القديم، كم جاهد، واحتمل المشـقـات والأهوال وخـاف، ولقي الموت عـارياً، فـي مـراحل نشأته الأولى وحياته، حتى مهد لنا سبيل الحياة الآمنة.. ولو أنه كان مضطراً أن يفعل.

ها نحن نجـاهد بعد انبثاق فجر المدنية آلاف السنين للتقدم، وها نحن نلقى الطبيعة، وقد قلت في نفوسنا هيبة مخاطرها المرعـبـة، وانزاحت ظلمـاتهـا المـتـراكـبـة، وارتقت وسائل الدفاع ووضحت مسالك العقل، وندرت المخاوف.. ومازلنا نخشى الظلمة، وما زالت فرائصنا ترتعد من حركة مجهولة فيها، وما زلنا نخشى المغاور والثقوب والمفاجآت المنبعثة منها.

فالدنيا كلها كانت مغارة مظلمة أمام الإنسان القديم، تترصد له فيها كلما خطا خطوة، مخاوف الموت حاسرة أو مستخفية، وطافرة أو زاحفة،.. رائحة الموت في كل شيء..!

وكان البطء الممتد المرعب، والتجارب القاسية القتالة، مفتاح هذه المستحيلات والمجهولات ومفتاحها الفرد. والحساب هنا ليس حساب سنين، لكنه حساب أجيال، في وسعنا أن نفترضها، متى قارنا طفل القرن العشرين، بجده الإنسان القديم البعيد.

الطفل الذي تقوم على تربيـتـه الأولى أمـة بـأسـرها، بغرائبها، ومعلوماتها، وحضارتها، أمة يؤلفها المنزل، والزقاق، والحـارة، والمدينة والمدرسة، وذخائر من الكتب والقـواعـد والدين واللغة الكاملة والحب والعواطف، والعادات والتقاليد، والغرائز المهذبة، وقوانين الوراثة ووسائل الحضارة، والأمن والرخاء. هذا الطفل الذي مـا يبلغ مـرحلة رشـده الأولـى، حـتى تتصبب الأمـة عـرقـاً، وتتهافت إعياء، أين هو من الإنسان القـديم الأعـزل، المندفع فـي بيـئـة مظلمة، تحتل الحـيـوانات الضارية نقطة الحياة منها؟ والذي مأواه كهف ضيق مظلم، أو رأس شـجـرة وفـروعـهـا، تتردد حـولهـمـا المخاطر عـارية، ويتردد حولهما الجوع والرعب، والريح التي تشي برائحته؟

بهـذا المـقـيـاس نـقـيـس بطء التطور في هذه المراحل المتساوقة، وإن كانت طبيعة العرض للصور المتلاحقة أمامكم، تختزل هذه الأمداء المترامية في كلمات..

والآن إلى القوة، فـرصـة الـحـيـاة شـائعـة يـأخـذ كل فرد في الجـمـاعـة بنصيبه منها.

هذا يطارد الغزال، وهذا يكمن له.

هذا يصيد أكثر لأنه أكثر قوة وحيلة. وهذا لا يصيد لأنه أقل قوة وحيلة.

«لا يصيد كثيرا إلا الأقوى».

1940*

*شاعر وأديب سعودي «1909 - 1972».