في إطار الحرب التي تشنها الدولة على مكامن الفساد، وما يتم ضبطه من عمليات تتعلق بالكشف عن أموال ضخمة مجهولة المصدر، يحاول أصحابها إدراجها ضمن المعاملات البنكية بطرق غير نظامية، بالإضافة إلى محاولاتهم لتهريب مجموعات نقدية إلى بعض دول الجوار بعد إخفائها في تجاويف سيارات أو بضائع بطرق شيطانية، حيث يعتبر جزء كبير من تلك الأموال المجهولة نتاجا لعمليات فساد مالي وإداري أو حصيلة عمليات تهريب مخدرات أو أسلحة أو سلع ممنوع دخولها، ويسعى أصحابها لإضفاء الشرعية عليها بإيداعها في حساباتهم كجزء من عمليات غسل الأموال المعروفة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولات تهريب الأموال إلى الخارج غالبا ما تكون ناتجة عن عمليات تستر تجاري تقوم بها عمالة وافدة. ولعدم قدرتها على تبرير مصادر تلك الأموال أمام الجهات الرسمية، فإنها تلجأ إلى محاولات تهريبها إلى دولها.

هناك قسم آخر من تلك الأموال ينتج عن تجارة غير مشروعة في العملات بواسطة مقيمين ومخالفين، امتهنوا تسلم الأموال من بني جلدتهم، وتحويلها إلى دولهم، للاستفادة من هامش الفرق بين السعر الرسمي للدولار والريال السعودي في بلدانهم، وأسعار الأسواق الموازية، وهؤلاء يقومون، بعد تحصيل مبالغ ضخمة، بتحويلها إلى دول آسيوية مثل الصين وكوريا واليابان عبر حسابات مؤسسات تجارية مملوكة لمواطنين، لاستيراد منتجات تجارية يتم إرسالها إلى بلدانهم.

القاسم المشترك بين كل تلك الأموال هو أنها ناتجة عن تعاملات محرمة ومعاملات غير مشروعة، يلجأ إليها بعض الذين منحوا ضمائرهم إجازة مفتوحة، وأدمنوا استحلال الحرام، ولم يعودوا يملكون القدرة على التمييز بين ما يجوز وما لا يجوز فعله.

هذه الممارسات المنحرفة تحمل قدرا كبيرا من الخطورة على الاقتصاد الوطني، وتهدد بإجهاض كل ما تحقق من إنجازات، فهي في البدء تحدث خللا في الاقتصاد، وتتسبب في اضطراب مستويات تدفق السيولة في الأسواق، وهي عملية في غاية الأهمية لاستقرار الأسعار، لأن الأجهزة الاقتصادية المختصة تتحكم في مستويات السيولة بالسوق، بحيث لا تكون أكثر من اللازم، فتتردى قيمة العملة الوطنية، ويتسبب ذلك في حدوث تضخم، ولا تكون أقل مما هو مطلوب، فتؤدي إلى انهيار الأسعار، وحدوث الكساد.

هناك وجه آخر لخطورة تلك العمليات المحرمة يتمثل في إسباغ الشرعية على عائدات الفساد، وحصاد كثير من أشكال التجارة المحرمة مثل المخدرات والسلاح، مما يشجع المهربين على الاستمرار في نشاطهم الذي يؤدي إلى هدم المجتمع، والإضرار بالاقتصاد.

ولا شك في أن نجاح هؤلاء في مساعيهم لتهريب الأموال إلى الخارج، سواء بإخراجها عبر الحدود أو تحويلها إلى دول أخرى، يؤدي إلى ازدهار التستر التجاري، الذي أرى أنه يمثل الخطر الأكبر على الاقتصاد الوطني في الوقت الحالي.

كذلك، فإن من يقومون بتحويل الأموال لبني جلدتهم من المقيمين يمثلون خطرا داهما، ويحرمون البنوك من أحد مصادر دخلها المهمة، والقضاء على تلك الظاهرة يتطلب تشديد الجهود الأمنية، وهي مهمة لا أتصور أنها عسيرة على عناصرنا الأمنية اليقظة التي عرفت على الدوام بقدراتها الاستثنائية، وإمكاناتها المتميزة، وحرصها على التصدي لكل ما يمثل خطرا على أمننا واقتصادنا.

لذلك لا بد من التصدي لتلك المحاولات بمنتهى الحزم واليقظة، وذلك عبر عدد من الإجراءات المتسلسلة، تبدأ من تشديد الرقابة على البنوك التجارية بواسطة البنك المركزي، ومراجعة كل عمليات الإيداع المثيرة للشبهات، والتأكد من مشروعية الأموال، ومعرفة كيفية اكتسابها، ووضع عقوبات مغلظة على جميع المتواطئين في هذه الممارسات المحرمة، ولا بأس من تغليظ العقوبات بسن قوانين جديدة تضع حدا لهذه الظاهرة.

ومن الضرورة في هذا المجال توظيف قدرات وإمكانات المملكة المتقدمة في مجال الأمن السيبراني، لأنها أكثر كفاءة على كشف تلك الممارسات في وقت وجيز، ويمكن للهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) أن تقوم بدور كبير في هذا المجال.

بقي القول إننا جميعا – مواطنين ومقيمين - مطالبون بالمشاركة في هذه المهمة الوطنية التي هي على جانب كبير من الأهمية كنوع من رد الدين لهذه البلاد التي أعطتنا الكثير، فالأرقام التي تتحدث عنها بيانات هيئة الرقابة ومكافحة الفساد وصلت إلى أرقام فلكية تثير المخاوف.

ما لم نتمكن من التصدي لهذه الممارسات، فإن كل ما تتبناه الدولة من خطط اقتصادية، وما تبذله من جهود ضخمة، لتحقيق التطور والنهضة، لن يكون له أثر على أرض الواقع، وسوف تضيعه فئة قليلة من الذين ارتضوا لأنفسهم أن يتقاضوا الفتات، والوقوف ضد مصلحة الوطن، ومستقبل أجياله القادمة.