شاع أن «اللمم» هو صغار الذنوب، أو هو مقاربة الذنب، أو هو ما دون فعل الفاحشة (الفاحشة في القرآن الكريم تعني فعل الجنس خارج الشرع والفطرة). فاللمم، في الزنا مثلاً، ما دون الإيلاج!

وجاء نقلا عن القرطبي:

«اللمم وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه. وقد اختلف في معناها»، إلى أن يصل لـ«وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة».

ارتباكهم واختلاف أقوالهم في تفسير اللمم غير مبرر، وترتب عليه اختلافهم في نوع الاستثناء في الآية، وقام على ذلك معنيان مختلفان تماماً في لفظة واحدة، في آية واحدة.

يقول الطبري «اختلف أهل التأويل في معنى «إلا» في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي بمعنى الاستثناء المنقطع (=المستثنى ليس جزءاً من المستثنى منه، اللمم ليس من جنس الكبائر والفواحش، وتكون «إلا» بمعنى «لكن» المخففة، وهي بداية كلام جديد) ويكون المعنى: نجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش. لكن اللمم (ما دون الكبائر ومقاربتها وصغار الذنوب) يغفره الله.

وهنا واجهوا حرجاً هو خروج «اللمم» من طبيعته اللغوية ضمن أوصاف العادة والندرة والانتظام إلى طبيعة أخرى هي الذنوب وأحجامها..

يواصل الطبري «وقال آخرون: بل ذلك استثناء صحيح (=المستثنى من جنس المستثنى منه = اللمم من جنس كبائر الإثم والفواحش). وهنا وقعوا في حرج كيف يكون مرتكبو كبائر الإثم والفواحش ضمن المحسنين. وليتجنبوا ذلك قالوا: معنى اللمم ما ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها الله لهم حين أسلموا... لكنهم بذلك افترضوا أن المؤمن بعد إيمانه لا يقع في الخطيئة وافترضوا أن مغفرة الله لهذه الذنوب تخص ما فعلوه في الجاهلية، وكلا الافتراضين خطأ ومحرج ولا يتفق لا مع الآية ولا مع طبيعة البشر ولا مع سعة غفران الله تعالى. الحق أن الاستثناء في الآية متصل و«اللمم» ليس استثناء من جنس كبائر الإثم والفواحش بل أجمل ما يمكن أن يقال فيه هو قول الرازي: «هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله: ﴿الذين يجتنبون﴾.

يقصد الرازي أن اللمم ليس مستثنى من كبائر الإثم والفواحش ولا هو منها وإنما مستثنى من الاجتناب في قوله»يجتنبون«. فاللمم يقابله الاجتناب، كما النادر يقابله الدائم المنتظم. وبرغم هذا القول الذكي إلا أن الرازي- للأسف - عاد وفسر، كالآخرين، اللمم بأنه مقاربة الذنب دون فعله. الواقع ليست كلمة»اللمم«وحدها من ألفاظ القرآن التي تعرضت لتفسير غريب أو اختلاف غير مبرر أو تعريف ناقص ثم اشتهر وشاع في الناس على حساب اللغة والصواب. في الشعر يرد اللمم واللمام بمعنى الفعل النادر المفاجئ غير المنتظم ودون ترتيب.

يقول الشاعر:

ألما بي على الأبيـات ... من خيف أزرهنه

يطلب من صاحبيه أن يمرا به على أبيات يزورها وهذا المرور ليس مخططا له في برنامج رحلته مع صاحبيه.

يقول عمر بن أبي ربيعة:

ألمم بزينب إن البين قد أفدا

قل الثواء لئن كان الرحيل غدا

هذا الرحيل المفاجئ يضغط عليه ليلم بزينب (يزورها الليلة زيارة سريعة بلا موعد ولا ترتيب مسبق) فالرحيل غداً.

وأقرب شاهد لحديثنا هو قول جرير:

بنفسي من تجنبه عزيز

علي ومن زيارته لمام

فحبيبته عادتها اجتنابه، أما زيارتها فليست عادتها، وإنما نادرة على عجل وبلا ترتيب وغير منتظمة.

في هذه الشواهد لا يمكن تفسير اللمام بأنه مقاربة الفعل، بل يعني فعل الفعل نادراً. فعل الزيارة وليس مقاربتها.

وفي اللسان»وإنما الإلمام في اللغة يوجب أنك تأتي في الوقت ولا تقيم على الشيء، فهذا معنى اللمم... قال أبو عبيد: معناه الأحيان على غير مواظبة«، وهكذا فاللمم واللمام من فئة أوصاف مثل (أحيانا، نادرا، غالبا، دائما). وليست من أوصاف مثل (كبير، صغير).

وحتى نفهم معنى آية اللمم حقاً يمكننا العودة للقرآن، ففيه آيات في سورتي الفرقان وآل عمران تحمل معنى آية النجم تقريباً بألفاظ أخرى.

»وسارعوا إلىٰ مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين...«الخ الآية 136.

* وآية الفرقان»وعباد الرحمٰن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً«إلى قوله... ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً».

لا آيات سورة النجم ولا الفرقان ولا آل عمران تفتح بابا للسماح بظلم النفس أو فعل الفاحشة قليلا أو كثيرا، غالبا أو نادرا، ولا تفتح باباً للذنوب الصغيرة ولا بمقاربة الذنب ولا بفعله، بل الآيات كلها تتفق على جملة من المعاني هي:

الأول: الاعتراف بالطبيعة البشرية وإمكان وقوعها في الذنوب، وهذا المعنى في آية آل عمران تشير إليه «إذا» التي تفيد احتمال وقوع المؤمن في فعل الفاحشة «إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم«.

وفي سورة النجم يشير إليه بوضوح بقوله «إلا اللمم» وهو يفيد احتمال وقوع المؤمن في الإثم والفاحشة أحياناً. «فلا تزكوا أنفسكم» وتزكية النفس هنا تعني الظن بها فوق طبيعتها كاعتقاد المرء الجازم في نفسه أنه لا يمكن أن يرتكب فاحشة في حياته.

المعنى الثاني: مغفرة الله الواسعة؛ وهذا المعنى في سورة النجم ضمن قوله «إن ربك واسع المغفرة».. وفي سورة الفرقان «يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيماً...» وفي آل عمران في قوله «ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله».

المعنى الثالث: هو الإخلاص في الاستغفار والتوبة، ولو تكرر الفعل، وهنا قد يقول بعضهم، إن ذلك يفتح بابا للإنسان أن يفعل الفاحشة كل يوم ويتوب كل يوم. وهذا كلام لا قيمة له، فالله وحده يعلم السرائر، ولا ينفع الإنسان احتياله وكذبه أمام الله. وهذا المعنى في سورة الفرقان يؤكده الفعل والمفعول المطلق «يتوب متابا» في قوله «ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا». والله وحده يعلم من يتوب بصدق ومن يكذب على الله والناس. ويؤكده في سورة النجم قوله «هو أعلم بمن اتقى». وفي آل عمران يؤكده قوله «ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون». فالإصرار على الفعل مع العلم بحرمته هو «عدم الاجتناب» ويكون المرء في هذه الحالة متحديا لله تعالى ومتعمدا معصيته كل مرة، وهذا التحدي المتعمد هو الذي يخرج الإنسان من دائرة «الذين أحسنوا» في سورة النجم، ومن دائرة «المتقين» في آية آل عمران، ومن دائرة «عباد الرحمن» في سورة الفرقان ومن دائرة الموعودين بالغفران إذا استغفروا وتابوا وأصلحوا.

هذه الآيات كلها تفتح باب الأمل والغفران للذين يقعون في الذنوب، وتخبرهم أن الله الذي خلقهم هو أعلم بهم، ويعرف طبيعتهم البشرية الناقصة، فوقوعهم في الإثم والفواحش ممكن، وأن الله تعالى على طريق المحسن ليثيبه وعلى طريق المخطئ التائب المستغفر ليغفر له.

معنى «اللمم» في آية النجم هو ندرة فعل الشيء وعدم التعود عليه أو الانتظام فيه، وهو معنى موجود في أقوال السلف لكن لم تكتب له الشهرة. أنقل عن ابن كثير:

»عن الحسن، عن أبي هريرة: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم قال: «اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود... عن ابن عباس: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب«.

أخيراً:»اللمم«لا تعني أبداً صغار الذنوب ولا مقاربة فعل كبائر الإثم والفواحش، بل تعني أن المؤمن»قد يفعل نادرا» كبائر الإثم والفواحش تحت ضغط الضعف البشري، وأن الله يفتح له باب الغفران إن كان ذلك ليس عادة له وإنما نادرا ودون انتظام ودون إصرار على تكرارها مع الإخلاص في التوبة والاستغفار.

ليس غرض المقال الانتصار لرأي قديم على رأي قديم، كلا. إن غرض المقال هو خطوة صغيرة لإعادة الاعتبار لبيان القرآن، وأخذ معانيه منه مباشرة، ووضع بيانه في الاعتبار قبل أي اعتبار للاختلافات البشرية المزمنة وغير المبررة.