أرادها حربًا صغيرة في مشروعه الكبير فكبرت الحرب وصغر المشروع.. فلاديمير بوتين ارتكب الخطأ المنتظر وبدأ يحصد النتيجة. فعل ما يفعله الطغاة عادة: لم يرَ سوى نفسه. ولم يسمع سوى صوته. ولم يستوعب أبدًا أن التاريخ يسير مع الزمن إلى الأمام ولا يعود إلى الخلف، وتكراره وهم يركب رؤوس الطغاة والمستبدين وخصوصًا منهم الذين يرون في الماضي الفاشل مشروعًا إحيائيًا ناجحًا للحاضر والمستقبل ! وحدهم الاستبداديون الذين يفترضون في ذواتهم قدرة على خلق معادلات حسابية جديدة تلغي القواعد الثابتة والعلمية.. ويفترضون أن البداية الغلط توصل إلى نهاية صحيحة ! وأن الذات المدرعة بالامتلاء النرجسي كفيلة بتطويع التاريخ وتغيير الجغرافيا «وإزالة» شعوب وأوطان بجرة قرار ذاتي مثلما كان الحال أيام زمان.. أيام الحدود غير الواضحة، والكيانات الوطنية غير المكتملة، وحيث إن مفهوم السيادة كان تعبيرًا عن هلوسة بلاغية ليس أكثر ! وحيث الغزو كان عادة مشاعة وأسلوب حياة ! والإبادات البشرية طقسًا مألوفًا ومتبادلًا حيث أمكن.. وحيث وسائل التواصل كانت على الخيل والحمام الزاجل ! وكشافات الضوء كانت تعتمد على اكتمال القمر وضوئه الفضي ! اعتمد أسلوب الترويع والصدم مع أعدائه ومشاريع أعدائه. وتبني سياسة الأرض المحروقة في معاركه التي خاضها «داخل» المدار الروسي إذا صحّ التعبير وبالقرب منه.. لكنه يبدو في أول «حرب» يخوضها وكأنه مصدوم من رد الفعل ومرتاع من تبعات الهجوم المضاد عليه.. ويكاد لا يصدق حقيقة أن الدنيا أوسع من حيطان الكرملين. وأوروبا أعقد «بقليل» من الشيشان ! وأن التلويح من البداية بسلاح النهاية لا يدلّ سوى على رعب ذاتي بقدر ما يحمل من دلالات ضعف الحجة والمنطق وانتكاس خطة الصدم والترويع والبلطجة المفضوحة ! تجربته «الناجحة» في الشيشان كانت أول أسباب فشله خارجها. ثم تكرار الأمر في جورجيا جعله مقتنعًا بطريقه ! ثم بعدها راح إلى ملامسة هواية اللعب بالخرائط في القرم من دون أن يحسب حساب الاستطرادات في عالم ما بعد الحرب الباردة بل تشجع وذهب إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية واستعار من هتلر مبدأه الأثير: جعل العنصر الروسي شماعة السعي الإحيائي مثلما جعل زعيم الرايخ الثالث العنصر الآري شماعة يعلق عليها كل أحقاده القومية وأمراضه وثاراته وطموحاته المدمرّة. ثم جاء إلى سورية ونسي التفويض بذلك من قبل الأمريكي والإسرائيلي.. راح يستعرض بفجور قوته وأسلحته، ويجرب هذه على الحامي بدماء السوريين وأرواحهم وأرزاقهم ثم يعربد بإعلان «نجاح» تجارب كل الأسلحة الحديثة في ترسانة بلاده.. لم يُرِد لأحد أن يشير إلى أنه أخذ الإذن المسبق بالمجيء إلى سورية بل تصرف وكأنه ينفذ وظيفة نيابة عن كل العالم وبديلا عن نكوص ذلك العالم عن التورط في حرب أهلية مريرة وضد ثورة على نظام إرهابي اتهم غيره بما فيه ! امتلأ بذاته وفاض خارجها. وصارت شخصيته أهم من أدائه الوظيفي.. بل صارت الصورة عنده أبدى من قراراته وأولى.. وعندما صار مهووسًا بالأنا وعظمتها وتماهيها مع عظمة بلاده التاريخية، أصيب بالنزق والرعونة وبزّ أقرانه وملهميه بذلك ولم ينتبه مثلا إلى أن ازدراء كبار «موظفيه» أمام الملأ لم يزد شيئًا في هيبته لكنه قلل من هيبة سلطته وصورة بلاده ! حتى صدام حسين لم يذهب إلى تلك الحدود وحافظ على الشكل لأنه جزء مكين من عدّة السلطة والتمكن: لم يجلس مع كوادره وأعمدة سلطته ونظامه جلسة أستاذ أمام تلاميذه مثلما فعل ويفعل بوتين ! ولم يكسر شخصية أخطر مسؤول عنده مثلما فعل بوتين مع رئيس جهاز استخباراته ! كان صدام يحضر إلى الجلسة القيادية بعد اكتمال حضور المطلوب حضورهم، فيقف هؤلاء إلى أن يجلس هو ثم يدعوهم إلى الجلوس... على الطاولة ذاتها وهو عند رأسها ! وحتى في مجزرة قاعة الخلد التأسيسية في تموز 1979، جلس صدام في الصف الأمامي إلى جانب رفاقه.. ثم صعد إلى المنبر وعندما اكتمل بناء المقصلة عاد ونزل إلى الصف الأول بالقرب من الرفاق الناجين من شفرة تلك المقصلة ! احتاط لأهمية الشكل والصورة في بناء هيبة السلطة ومشروع الإمساك بها وافترض عن حق أن إهانة أي مسؤول علنًا تضعف النظام وصاحبه ولا تقويه...لكن القيصر غير المكتمل في الكرملين يتصرف وكأنه أهم من بلده. و«صورته» أهم من مؤسسات الدولة ورموزها السيادية ! وهيبته الشخصية تفوق في أهميتها هيبة الدولة المطلوب إعادة إحياء عزّها الإمبراطوري ! وهذه تفاصيل لم ينتبه صاحبها إلى أنها تعطي صورة شاملة عنه وعن أسلوبه. وتؤخذ على محمل الجد عند صناع القرار في الخارج. وتُعتمد بثقل ورزانة عند دراسة خطواته وتوقع التالي منها.. وليس غريبًا في ضوء ذلك، وصول الكثيرين إلى قناعة بأن زعيم روسيا بلطجي ! وهذا في العادة لا يرتدع سوى بالقوة الموازية أو بمجرد التلويح بها ! وأن هوسه بشخصه يعني أنه غير مستعد للذهاب بعيدًا في تحدٍّ قد يدمرها وينهيها ! وأنه لذلك يُكثر الضجيج التهديدي لكنه لا يحتمل الضجيج الموازي له ! وهو في لحظة المواجهة الفعلية مستعد للتنازل وليس للتصعيد ! وللتسوية وليس لمواصلة الصدام. قبل شروعه بحربه على أوكرانيا ملأ الدنيا زعيقا تهويلها غير مألوف، وهدد من يحاول التدخل فيها بمواجهة «عواقب ليست مسبوقة» وبالغ في مسرحة غضبه وإظهار نفاد صبره بجرعة فظاظة وقلة أخلاق إزاء ضيوفه الأجانب... وافترض أن ذلك سيردع الغرب عن التدخل أو سيضيف إلى الأسباب الكبرى التي تمنعه عن ذلك التدخل، سببًا إضافيًا وجيهًا وهو عدم الرغبة بإغضابه أكثر ! بل بضرورة عدم استفزازه طالما أنه يحمل السلاح النووي واصبعه على ذلك زرّ التحكم به ! ثم افترض أن حشد قواته سيكفي لعدم استخدامها وأن القيادة «النازية» في كييف ستركع وتستسلم... لكن الذي حصل كان العكس تمامًا: لا كييف ارتعبت وانهارت ولا أوروبا استكانت وسكتت ولا أمريكا تراخت وهربت من التحدي.. وخاب أمل الباغي من بداية القصة ! لكن العالم برمته دخل في تجربة لا يقدر أحد الآن، أن يحدد كيفية وموعد الخروج منها ! نافذة: لا كييف ارتعبت وانهارت ولا أوروبا استكانت وسكتت ولا أمريكا تراخت وهربت من التحدي.. وخاب أمل الباغي من بداية القصة.

...واي قدر لهذه الروسيا العظيمة وشعبها المبدع والخلاق : يتحكم بها مشعوذ إسمه راسبوتين في اواخر حكم القياصرة . ثم تفرز ثورة البلاشفة مجرم استثنائي اسمه ستالين ثم يعقبه مختل اسمه خروشوف ثم يليه صنم اسمه بريجنيف ثم يدور الزمن على انهيار يقوده مهرج اسمه يلتسين ثم يليه مجنون عظمة .... ...المرحلة "الطبيعية "اليتيمة التي قادها عاقل اسمه غورباتشيف انتهت بانهيار النظام وتفتت الامبراطورية التي يحاول اليوم الـ ..... لملمة زجاجها المنثور فلا يترك لوح زجاج الا ويصطدم به !

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير