لا حديث هذه الأيام يطغي على أخبار الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد أعلن القيصر بعد تضليل ونفي أنه لا ينوي البتة ولا حتى البتتين غزو أوكرانيا، «صراحة أعجبتني البتتين فهي متناغمة مع بوتين»، وقال إن ما يروّجه الغرب وبالذات أمريكا وعلى رأس الجميع بايدن أكاذيب لا تمت للصحة بصلة. بوتين لحس كلامه وتعهداته، وأن كل تلك التجهيزات من حوالي مئتي ألف جندي إلى مئات الدبابات والمدرعات والطائرات والسفن كلها فقط كانت يا عيني للتدريب، وفشر الذي يقول إنها كانت لمهاجمة أوكرانيا.

ولأنه رئيس دولة ومستبد سيعتبرون هذا دهاء سياسي، ولكن لو كان بني آدم على قد الحال، وكذب كذبة بيضاء «الكذب كيف ما كان لا يسوغ» لقيل فيه ما لم يقله مالك في الخمر.

بوتين أو بايدن وحتى رئيس الصين، بل كل حوت أو قرش، ما يهمه لا رأي عالمي ولا هيئات إنسانية ولا تنديد ووعيد.

الدولة الكبيرة تعتدي على الضعيفة بسبب أو دونه.. ما هو شغلكم يا مجتمع دولي خليكم شاهدين على حبايبكم وهم يعتدون عليهم وتهاجم بلادهم، ويقتلون ويشردون وأنتم تتفرجون، واللي مو عاجبه يورينا شطارته.

من البديهي إذا قام الغرب بالعدوان فهم وحوش بنظر الشرق «الصين وروسيا» والعكس صحيح، ليس مهمًا من يذبح أو يشرد أو يصبح يتيمًا أو تصبح أرملة، مش فارقة ومن داري عنك ياللي في الظلام تبكي، هذا هو قدر الدول الضعيفة التي وجدت من نشأتها لا لها ولا عليها يا دوب تقول سمعًا وطاعة وبصوت مرتفع وبخنوع، ودول كانت لديها إمكانيات فخمة وقدرات عظيمة وبخاصة من جيش وعتاد وأسلحة ردع تجعل أي من يحاول الاعتداء عليها يفكر ما هو مرتين بل ثلاث مرات.. فما كل طير يتآكل لحمه، وهناك مثل يقول يستاهل البرد من ضيع عباءته، ولو أوكرانيا رغم أن البرد عندهم يقص المسمار على ما يقولون، ولكنهم لم يضيعوا عباءاتهم بل بكل هبالة وعدم تقدير سلموا مش عباءاتهم بل خزانة ملابسهم كلها من أخمص القدم حتى القبعة فهم نسوا كونهم على حدود الدب الغدار روسيا والحدود التي تفصل بينهما هي 1756كم، وأن هواءهم الغربي لا يتوافق مع مزاج بوتين.

وهكذا تعرت أوكرانيا حينما ضحك عليها الشرق والغرب، وذلك أثناء الاجتماع الذي عقد في موسكو عام 1994 بين أوكرانيا وروسيا وأمريكا ثم وقعت اتفاقية اشترك في توقعها أوكرانيا وروسيا وأمريكا والمملكة المتحدة، واتفق فيها على أن تسلم كييف ترسانتها النووية إلى روسيا مقابل تعهد روسيا وأمريكا بحمايتها من أي اعتداء.

وفي عام 1996 استكملت كييف تسليم ترساناتها النووية إلى روسيا والتي كانت لا تقل عن 1800 رأس نووي وتقدر بثلث ترسانة الاتحاد السوفييتي وغيرها من الصواريخ والمعدات النووية، لقد كانت ترسانة كييف النووية أكثر من ترسانة ست دول مجتمعة، فالصين لديها 270 رأس نووي وفرنسا 300 وبريطانيا 215 وباكستان 140 والهند 130 وإسرائيل 80، وحينها لو فكر الذي وقع عن أوكرانيا بعقل لما وقع فأولا هذا يعد تخليًّا عن قوة إستراتيجية مقابل ورقة «بلها وشرب ميتها».

وثاني شيء من الذي سيعتدي على كييف يا إما أمريكا ويا إما روسيا، يعني السويد أو النرويج مثلاً لن تشنا حربًا عليها، طبعًا هناك من يقول الصين، ولكن هواة الحروب وعشاقها هنا أمريكا بالدرجة الأولى وروسيا من بعدها، أما الصين فهي حية رقطاء ولكن لا تتحرك عشوائيا ولإظهار العضلات، بل تحسبها صح وكل شيء في وقته حلو.

عمومًا ليس أوكرانيا وحدها التي تخلت عن ترسانتها النووية بل بيلاروسيا وكازاخستان وكلهم كانوا أجزاء من الاتحاد السوفيتي، وتم ذلك بناء على اتفاقية بودابست NPT، والتي جوهرها هو ألا تبقى إلا أمريكا والمملكة المتحدة وفرنسا والصين وروسيا فقط دول نووية، وأن الدول التي تخلت عن سلاحها النووي ستكون محمية، وطبعًا الكلام ببلاش وفي الهيجاء ما جربت نفسي، لكن لا بارك الله في الضعف والاستسلام، فالهند سنعت نفسها وكذا الباكستان طبعًا والابنة المدلعة الزغنطوطة لإسرائيل.

روسيا استغلت تصريح رئيس أوكرانيا عندما قال إن من حق بلاده العودة إلى التسلح النووي، وذلك بعد أن حاول عدة مرات إحياء تلك الاتفاقية وتمتينها، طبعًا لا حياة لمن تنادي.

الملاحظ الحراك السياسي لماكرون رئيس فرنسا ويبدو ليس للعيون الزرق للبنانيين أو الأوكرانيين بل هي دعاية مجانية للانتخابات الفرنسية القادمة.

رغم صراع الديكة فقد تحدث ماكرون مع بوتين عدة مرات، والمكالمة الأخيرة استغرقت 90 دقيقة لا أعرف إذا كانت هذه المكالمة فقط عن أوكرانيا.

ويحضرني هنا المقولة الظالمة إن النساء «رغايين» فبعد هذه المكالمة عداهن العيب.

لا ندري كيف تنتهي الأمور هل بحل إلى أقصى اليمين بانكسار الروس أو إلى أقصى الشمال بسحق أوكرانيا، وعلي وعلى أعدائي، وبعدين يحلها حلال أو بحل وسط مثلا إعلان حيادها أو بتفكير مختلف بدا لي بأن تعلن أوكرانيا لمدة عقد أو عقدين من الزمن ألا تدخل في الناتو، والتعهد بعدم حيازة أسلحة نووية.

الحكمة التي نخرج بها ألا تعتمد على أحد ليكون بديلا عنك، خاصة الدولة المعروفة بتنصلها من تعهداتها عيني عينك وفي مقدمتها الولايات المتحدة، هذا إذا لم يتم توريط أوكرانيا وجعلها رأس رمح للنيل من روسيا وتركيعها اقتصاديًّا وبلع زلينسكي الطعم، يهايط الغرب ويلعلع أنه يقف مع أوكرانيا ولكن كعادته في الملمات بعد خراب مالطة.

لقد وضح بجلاء وبما لا يقبل الشك أن البيت الأبيض لا ينفع في اليوم الأسود، كما إن مقولة القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود هي أيضًا أي كلام، لأنه أصلا لا يوجد قروش بيضاء، والظاهر أنها اسودت كلها، فكل قرش يا دوب ينفع في حزته ويا الله الخراج.

ختامًا لعله من الجدير أن نتذكر قول حسني مبارك لوزير خارجيته أبو الغيط: «يبات عريان المتغطي بالأمريكان».

والحكمة البالغة هنا، لا تتخلى عن بطانيتك حتى وأنت في عز الصيف.