سأكتب لكم اليوم عن قصة نجاح سعودية ناهضة، خلفها أبطال مهمين للغاية: القيادة الحكيمة، وأرامكو العظيمة، والمواطن والمواطنة السعودية، وأدوات ثقافية مصدرها مركز الملك عبدالعزيز العالمي الثقافي (إثراء)، القائم اليوم بأعمال التنقيب عن الآبار الثقافية والإبداعية.

قد سبقت نجاح هذه القصة أحداث عديدة، لعل أولها بدأ في الرابع من مارس 1938م، حيث إنه، وبعد محاولات حثيثة، ومِنح امتيازات عديدة للتنقيب عن آبار النفط، أمطرت الأرض السعودية من داخلها بسائل أسود لزج، تكوّن في باطنها بفعل التحلل منذ ملايين السنين، وكان أكرم الأمطار الصاعدة من أسفل قعر بئر حملت الرقم 7، لكنها لم تستطع يومذاك أن تنتج سوى 1558 برميلًا في اليوم..

هذه البئر نفسها التي تحولت إلى اسم «الخير»، خير لا نعلم -لولاها بعد الله- ما الذي كنّا سنغدو عليه، ولا ما الذي سنصل إليه، ولا ماذا سنفعل أمام تحولات العالم وظروفه المتناحرة والمتصارعة بين حربين عالميتين، انتبه سكّانه وقادته بعدهما إلى ضرورة البقاء أحياءً، باحثين عما يطوّرهم، وينقلهم من عصور الاقتتال والظلام إلى حياة النور، إنسانًا ومكانًا وعقلًا.

ومنذ ذلك الحين و«أرامكو» تحفر أرض وطننا بسواعد متعاقدة من أجل هذه المهام، ثم بسواعد وطنية استنبتت «أرامكو» في أذهانهم خبرات فرق تنقيب عالمية، عاصرتهم وعايشتهم.. هذه الشركة العملاقة الأشبه ما تكون اليوم بوتد لشركات البترول في العالم، يثبّتها ويسندها حتى لا تقع..

الشركة التي غدت اليوم أهم قائد ومحرّك لهذا الاقتصاد العالمي، بل أهم برميلٍ نفطيٍ يتشبث به سكّان الكرة الأرضية. ثمانية عقود مرّت على هذه الأحداث حتى الآن، نضجت فيها أرض الوطن وضّخت، ونبتت داخلها الآلات وامتدّت، وبلغت بزيتها المعمورة وتجلّت..

حتامَ لم يعد يُرى منتج أهم من منتجها، وقيمته الخام. ثمانية عقود أنجبت خلالها «أرامكو» كادرًا سعوديًا يدير، وينقّب، وينتج، ويكرر، ويحلل، ويثقف، ويبهر العالم.

ثمانية عقود تزاوجت خلالها تربة الوطن فيما بينها البين، وأنجبت من تلك البئر الواحدة -بفضل الله- آبارًا أُخرج منها ما كان سببا في بناء أعظم الدول، وإنعاش اقتصاداتها، وصار هذا الوطن كأعظم شجرة زيتٍ لا تُرى ثمارها التي تعصرها الأرض داخل رحمها، وإنما يُرى آثارها على الإنسان السعودي وبيئته، وهُويته، وثقافته.

ولعل أحد أهم الأدلّة الحية اليوم على الهُوية الثقافية هو مركز الملك عبدالعزيز العالمي الثقافي (إثراء) بالظهران الذي لم تجيء أهميته لأنه بُنيّ في موقع أول بئرٍ اكتشفت في وطننا -بئر الخير- فحسب، بل لأنه جاء كإثبات ظاهر على أن «أرامكو» السعودية انتهت من مرحلة التنقيب عن آبار النفط، ومراحل التخزين الإستراتيجي والادخار للأجيال، وبدأت في مرحلة جديدة ألا وهي التنقيب عن آبار ثقافية في ذهن وعقل المواطنة والمواطن السعودي الذي يثبت كل يوم أنه أهم الثروات، وأقدرها على البقاء، وأجدرها بالتوريث للأجيال المقبلة: عِلمًا، وفِكرًا، وثقافًة، وإبداعًا..

وليس يوجد شيء بعد ما قاله سيدي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود «أعظم ما تملك المملكة للنجاح هو المواطن»، فهذه الكلمة وحدها كفيلة بأن تعيدنا إلى مركز إثراء الثقافي؛ كونه أبرز الآبار الثقافية اليوم في وطننا، بل يعد من أهم مائة مشروع ومبنى بالعالم. واليوم، ومن بين يديّ هذا المركز، وعلى منصته الباعثة للفخر والاعتزاز والشموخ، أنوّه بأن تنقيبًا مثل هذا سيواصل مسيرة النماء والنهضة الإنسانية والوطنية والمجتمعية، وسيحرّك عجلة الاقتصاد بكل أشكاله؛ لأنّ العقل قابلٌ للبناء كما هو قابلٌ للهدم، وقابلٌ للتنقيب كما هو قابلٌ للإهمال أو الردم.

ثم تعالوا لنفكر معًا قليلًا في أهمية هذا التنقيب الثقافي.. إن كانت آبار الأرض أعطتنا طيلة عقودنا المنصرمة، ولا تزال تعطينا، فما الذي تراه ستقدمه لنا آبار «أرامكو» الثقافية داخل هذا الذهن السعودي الفريد في عبقريته وذكاءاته المتعددة.

إنني لعلى يقين تام بأن شركة ضخمة ذات سيادة قوية، وخطط متجددة لم تصل إلى هذا المستوى من الإعمال الذهني المجتمعي ما لم تكن خطواتها هذه ضمن خرائطها ومخططاتها منذ الأزل؛ لأنها تعلم أن النفط قابل للزوال والانتهاء -ذات يوم- وأن الأعظم من الزيت الأسود الخام الخارج من باطن الأرض هو المخ الإنساني الذي يحمله عقل كل مواطنة ومواطن سعودي، وأنه أعظم الاستثمارات الرابحة والمُربحة.